رؤى

قراءات إسلامية (1): الإسلام.. بين الشريعة والنظام

النظام في الدولة –أية دولة– هو مجموعة كثيفة من قواعد السلوك العامة المجردة الملزمة للكافة؛ هذه القواعد تقوم على حراستها وضمان إنفاذها –ولو بالإكراه– سلطة (حكومة). هذا من جهة.. من جهة أخرى؛ فإن هذه القواعد هي ذاتها المنظم للعلاقات بين الأشخاص في المجتمع، أي مجتمع.. ومن هنا يُطلق عليها جملة نظام.

والنظام بهذا المعنى يثير قدرًا لا بأس به من الإشكاليات؛ إلا أن أهم هذه الإشكاليات والتي تدخل في نطاق حديثنا هنا، هي مشروعية النظام. نقول مشروعية ولا نقول شرعية لأن الأولى تعني صلاحية النظام لمجتمع معين، أما الثانية فتعني اتفاق الممارسة مع قواعد النظام.

وفي محاولة للاقتراب من هذه الإشكالية (إشكالية مشروعية النظام) لابد من التعرض لنقطتين أساسيتين هما: الإيمان، والقبول.

القبول العام

الإيمان هو الباعث على القبول، وليس قبولًا أو بديلًا عنه؛ وهو من طبائع البشر، كل البشر.. وكل إنسان يقبل نظامًا لأن قواعده تصوغ العلاقات بين الاشخاص، صياغة تتفق وفكرة أو فلسفة أو عقيدة يؤمن هذا الشخص بها.

يعني هذا في ما يعنيه أنه لا مفر من أن يكون الباعث على قبول النظام –أي نظام– إيمانًا. إذ إن الإيمان بالمصدر العقائدي أو الفلسفي أو الفكري للنظام؛ هو الدليل القطعي على أن قبول الناس له هو قبول حر لا إكراه فيه، حيث إن الإنسان لا يُكره على قبول ما يؤمن به. هذا من جانب. غير أنه من جانب آخر، لما كان من المحال التحقق من مضمون الإيمان بدون التعبير عنه، ولما كان من المحال التحقق من صدق هذا التعبير، فإنه يلزم ويكفي القبول مصدرًا لمشروعية” النظام، بدون تفتيش عما في الصدور من بواعث إيمان.

الفرد وقبول النظام
الفرد وقبول النظام

وبالتالي فإن مصدر مشروعية النظام، هو قبول الناس له قبولا حرا بدون إكراه؛ فيكفي لقيامه مشروعا أن يقبله الناس، أو أن تقبله أغلبية الناس، وليس لكائن من كان أن يبتدع نظاما، فيقيمه على الإيمان ولا يعتد بالقبول العام.

مؤدى ذلك أن ليس ثمة صعوبة فنية في قيام أي نظام، في أي دولة يقبله شعبها أو أغلبيته قبولا حرا حتى يكون مشروعا مُطهّرا من الإكراه يمكن أن يقال ديمقراطيا.

الشرط، إذن في مشروعية النظام هو قاعدة القبول العام.

النظام الإسلامي

ما يصدق بالنسبة إلى كل النظم، يصدق بالنسبة للنظام الإسلامي. إذ يكفي لقيامة مشروعا أن يقبله الناس، أو تقبله أغلبية الناس، وليس لكائن من كان أن يبتدع في النظم بدعة عدم الاعتداد بالقبول العام؛ لأن الباعث عليه إيمان بعقيدة الإسلام.

ودليلنا على هذا الذي نقوله مثالان:

المثال الأول: في فتح مكة.. حيث دخل الكافرون المنهزمون في الإسلام أفواجا فور الهزيمة، فأصبحوا مسلمين.. أي قبلوا الإسلام نظاما وقُبلوا فيه. ولم يتوقف أحد ليفتش عن الإيمان في الصدور، ليكتشف كيف يتحول الناس أفواجا من الكفر إلى الإيمان في بضعة أيام، وبمجرد أن ينهزموا وهم يقاتلون المؤمنين!

ولكن هذا هو الإسلام نظاما.. إحدى قواعده المميزة قبول من يشهد على نفسه علنا بأنه يقبله بصيغة الشهادة المعروفة، فيعامل بأحكامه.. ويترك ما في السرائر إلى عالم السرائر.

المثال الثاني: الأَعْرَاب الذين قبلوا الاسلام نظامًا، وقُبلوا فيه.. فلما زعموا أن الباعث على قبولهم إيمانهم، قال الله سبحانه وتعالى: “قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” [الحجرات: 14] و”لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا” أي لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئًا.

وهو واضح الدلالة على أن العبرة في مشروعية الإلزام والالتزام بقواعد النظام الإسلامي قبوله، وليس بالباعث على قبوله. يقول سبحانه وتعالى: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” [البقرة: 256].

وللفظ الدين في القرآن دلالات متعددة.. هي في هذه الآية تدل على الإسلام نظاما؛ إذ إن الإكراه في العقيدة محال، وإلا لما كانت الآية قد طرحت الترغيب عن طريق الربط بين الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، وبين الاستمساك بالعروة الوثقى التي “لا انفِصَامَ لَهَا”.

مؤدى ذلك أن ليس ثمة صعوبة فنية في قيام نظام إسلامي في أية دولة يقبله شعبها أو أغلبيته قبولا حرًا حتى يكون مشروعا مطهرًا من الإكراه يمكن أن يقال ديموقراطيًا.

ولكن.. كيف يكون النظام إسلاميا؟

من المنطقي أن “كل قاعدة سلوك عامة مجردة آمرة أو ناهية، جاءت بها آية من آيات القرآن محكمة أو حديث متواتر قطعي الدلالة” هي قاعدة ملزمة للكافة، لا يجوز لأحد أن يخالفها، وليس مباحا الاتفاق على مخالفتها.. ليس هذا محل خلاف أو اجتهاد.

وبالتالي يكون نظام الدولة إسلاميا ويتميز بأنه إسلامي، إذا تضمنت قواعد النظام العام فيها تلك القواعد كلها غير منقوصة.. نقول تضمنت لأنه –في ما نعتقد– مباح للناس أن يضيفوا إلى تلك القواعد التي لا اجتهاد فيها قواعد أخرى  وضعية يرفعونها عن مخاطر الخلاف إلى مرتبة النظام العام؛ وهي الإضافة التي تأتي لأسباب تتصل بظروفهم المتغيرة في المكان، المتطورة في الزمان.

ولكن.. ماذا عن الدولة التي تستطيع أن تبني نظاما إسلاميا مشروعا؟.. وماذا عن مفهوم الدولة ذاته، في الفكر الإسلامي؟ يتبع…

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock