تحتل مدينة القدس في التاريخ الإنساني، في كل العصور، مكانًا مقدسًا لا نظير له بين مدن العالم؛ وذلك لما لها من أهمية دينية عند اتباع الديانات السماوية. فعلى أرضها توجد الأماكن المقدسة لهذه الأديان، ويفد إليها طوال أيام السنة المؤمنون، وغيرهم، من أنحاء العالم.
فهي عاصمة الأديان، ومدينة الأسماء، ومجمع الحضارات عبر القرون. وهي كانت ولا تزال، بؤرة للخلاف والنزاع في كل المفاوضات التي جرت حولها، في مختلف مراحل تاريخها الطويل؛ وهي بذلك إنما تُعبر عن بوابة الحرب ومفتاح السلام في الوقت نفسه.
وللقدس من الأسماء ما ليس لغيرها من مدن العالم. فمنذ أن أسسها اليبوسيون العرب (نحو عام 2500 ق.م) سميت “يبوس” نسبة إليهم. ومنذ ذلك الحين، مرت بالعديد من المحطات والعصور التاريخية، تلك التي تتجلى في الأسماء الكثيرة التي أطلقت عليها.
الاسم العربي
ـ فيبوس اسم أُطلق علي القدس، نسبة إلى اليبوسيين من بطون العرب الأوائل، الذين نزحوا من جزيرة العرب مع من نزح من القبائل الكنعانية. وكما تشير “الموسوعة الفلسطينية، 1948” فقد بنى اليبوسيون قلعة حصينة على الرابية الجنوبية الشرقية من يبوس، سميت حصن يبوس أقيمت حولها الأسوار وبرج عال في أحد أطرافها للسيطرة على المنطقة المحيطة بيبوس، للدفاع عنها وحمايتها من غارات العبرانيين (عُرف حصن يبوس في ما بعد بحصن صهيون، ويعرف الجبل الذي أقيم عليه الحصن بالأكمة، أو هضبة أوفل).
وبقى حصن يبوس بيد اليبوسيين بعد مجيء الموسويين، زهاء ثلاثة قرون، فشلت خلالها القبائل العبرانية، التي غزت فلسطين بعد خروجها من مصر (في النصف الثاني من الألفية الثانية قبل الميلاد) إلى أن تولّى ملكهم داود؛ فجمعهم وذهب معهم إلى يبوس، واستولى عليها، متخذا منها عاصمة له، وأطلق علي الحصن اسم مدينة داود.
ورغم استيلاء اليهود (القبائل العبرانية) على القدس، في عهد الملك داود إلا أن الغالبية العظمى من سكان المدينة –في ذاك العهد– كانت من اليبوسيين العرب؛ إذ إنها ظلت –كما كانت– عربية خالصة. ورد ذلك في سفر القضاة من العهد القديم “فلم يرد الرجل أن يبيت بل قام وذهب وجاء إلى مقابل يبوس وهي أورشليم، وفيما هم عند يبوس والنهار قد انحدر جداً، قال الغلام لسيده تعالى نميل إلى مدينة اليبوسيين هذه نبيت فيها، فقال له سيده لا نميل إلى مدينة غريبة حيث ليس أحد من بنى إسرائيل هنا..” (إصحاح: 19/10 –12).
ـ استمرت سيطرة اليهود على القدس، من عهد الملك داود (حوالي سنة 1000 قبل الميلاد) إلى أن فتحها نبوخذ نصر(بختنصر) سنة 586، قبل الميلاد؛ ودمرها ونقل السكان اليهود إلى بابل. وبعد أن استولى الفرس على سورية وفلسطين، سمح الملك قورش في سنة 538، قبل الميلاد لمن أراد من الأسرى اليهود بالرجوع إلى القدس، وأمر بإعادة بناء الهيكل الذي كان سليمان، خليفة داود، قد بناه بمساعدة المعماريين الفينيقيين.
الحكم الروماني
وظلت المدينة تحت الحكم الفارسي، إلى أن فتحها الإسكندر المقدوني سنة 332 قبل الميلاد. وتأرجحت السيطرة عليها في عهد خلفائه بين البطالمة والسلوقيين، إلى أن قام الملك السلوقي أنطيوخيوس الرابع، حوالي سنة 165، قبل الميلاد بتدمير الهيكل وأرغم اليهود على اعتناق الوثنية اليونانية؛ ما كان سببًا في اندلاع ثورة “المكابيين” ونجاح اليهود في الاستقلال بأورشليم تحت حكم الحاسمونيين في الفترة من 135 ق.م : 76 ق.م.
وبعد فترة من الفوضى، وكما يؤكد مصطفى مراد الدباغ في كتابه: “بلادنا فلسطين، 1975” استولى الرومان على سورية وفلسطين، ودخل القائد الروماني “بومبي” المدينة سنة 63 قبل الميلاد. وفي عهد الإمبراطور “نيرون” بدأت ثورة اليهود على الرومان؛ واحتل القائد “تيتوس” المدينة وأحرق الهيكل سنة 70، ميلادية. وعندما قامت ثورة اليهود من جديد، بقيادة باركوخيا سنة 132م، أسرع الإمبراطور هادريانوس بإخمادها سنة 135، وخرّب المدينة وأسس مكانها مستعمرة رومانية يحرم على اليهود دخولها، وأطلق عليها اسم إيليا كابيتولينا “إيليا” هو اسم الإمبراطور الأول.. و”كابيتولينا” نسبة إلى “الكابيتول” أى معبد جوبيتر كبير آلهة اليونان.
وقد كانت القدس قبل الإسلام، وقبل الفتح العربي لها، محل نزاع وصراع وميدان للحروب، تارة بين سكانها الأصليين من اليبوسيين والقبائل العبرانية، وطورًا بينهم وبين الغزاة الذين قدموا إليها، من بابليين وفرس ويونان ورومان. وبقيت كذلك حتى فتحها العرب المسلمون في عهد الخليفة الثاني أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سنة 636 م، العام الخامس عشر الهجري، وذلك بعد هزيمة الروم في معركة اليرموك.
الفتح الإسلامي
وهكذا، أصبحت القدس أول مدينة يفتحها المسلمون سلمًا خارج الجزيرة العربية، بعد فتح مكة في عهد الرسول –عليه الصلاة والسلام– وقد عقد عمر بن الخطاب مع البطريرك صفرونيوس معاهدة سلام، عرفت بـ”العهد العُمَري” أعطى سكانها الأمان والحرية والسلام. وظلت القدس تنعم بالاستقرار والازدهار في ظل الإسلام على مدى خمسة قرون.
وقد غزاها الصليبيون في القرن الحادي عشر للميلاد سنة 1099، واستمر احتلالهم لها ثمانية وثمانين عامًا، إلى أن أعادها صلاح الدين الأيوبي إلى حظيرة الإسلام مرة أخرى عام 1187 م. وعندما قدم ريتشارد قلب الأسد على رأس الحملة الصليبية (حرب الفرنجة الثالثة) وعجز عن إعادة احتلال القدس، حيث أنهكته مقاومة المسلمين، لجأ إلى المفاوضات مع صلاح الدين الأيوبي؛ خاصة بعد الضربة القاصمة التي تلقاها “الفرنجة” في معركة حطين (583 هـ / 1178 م).
وبعد صلاح الدين الأيوبي، تولى حكم القدس ابنه الملك “الأفضل” ومن بعده تولى الحكم الملك المعظم عيسى بن أحمد بن أيوب، الذي أجرى تعميرات في كل من المسجد الأقصى وقبة الصخرة التي كان قد بناها عبد الملك بن مروان في سنة 72 هـ / 691 م.
إلا أنه بعد فترة وجيزة، تلا المعظم أخوه الملك الكامل، الذي عقد اتفاقًا مع الإمبراطور فريدريك الثاني ملك الفرنجة، سلمه بموجبه القدس ما عدا الحرم القدسي الشريف. وقد سلمت المدينة وسط مظاهر الحزن والسخط والاستنكار سنة 626 هـ / 1229م وبقيت في أيديهم حتى استردها الملك الناصر داود ابن أخي الكامل سنة 637 هـ / 1239 م. ولكن الناصر ما لبث أن سلمها مرة أخرى سنة 641 هـ / 1234م.. ثم عادت إلى الإسلام نهائيا عندما استردها الخوازمية للملك نجم الدين أيوب، ملك مصر سنة 642 هـ / 1244م.
وفي عصر المماليك، دخلت القدس في حوزتهم منذ سنة 651 هـ / 1235م، وبقيت كذلك حتى 922 هـ / 1516 م. وقد حظيت المدينة في هذا العصر باهتمام ملحوظ، وغدت في زمن المماليك مركزًا من أهم المراكز العلمية في العالم الإسلامي كله.
الحكم العثماني
ثم جاء العثمانيون، عندما وضع سلطانهم سليم الأول حدًا لحكم المماليك في بلاد الشام، إثر انتصاره عليهم في معركة مرج دابق سنة 922 هـ / 1516م. وقد خلف السلطان سليم ابنه سليمان القانوني سنة 927 هـ / 1520م، الذي اهتم بالقدس اهتمامًا خاصًا، وأقام فيها منشآت كثيرة منها: سور القدس الذي دامت عمارته خمسة أعوام. ثم أصبحت القدس تحت حكم “إبراهيم بن محمد على” حاكم مصر سنة 1831ـ 1840 م الذي احتل سوريا كلها إثر خلاف نشب مع الدولة العثمانية.
والملاحظ بالنسبة إلى الحكم العثماني، منذ القرن السابع عشر، أنه اتسم بالخلافات بين الطوائف المسيحية المختلفة، ونزاعها على النفوذ على الأماكن المقدسة. وكان من نتائج هذه الخلافات: “حرب القرم” سنة 1853، بين روسيا التي ادعت حماية الأرثوذكس، وفرنسا وإنجلترا اللتين ادعتا حماية اللاتين. ورغم الإجراءات الإصلاحية، التي أدخلتها الدولة العثمانية، في ما يخص المساواة بين جميع الرعايا العثمانيين؛ إلا أن التغلغل الاستعماري في البلاد، كان قد بدأ، ومعه ازدادت الهجرة اليهودية، وتفاقم عدد اليهود في القدس تدريجيًا.
ثمة دخلت فلسطين تحت الحكم البريطاني سنة 1917، وبدأت بريطانيا تنفذ سياسة وعد بلفور بوضع البلاد –والقدس في مقدمتها– في ظروف تمهد لسيطرة الصهاينة على فلسطين كلها، وهو ما تحقق بعد خمسين سنة 1967.
يتبع…
