رؤى

زهرة المدائن (5): القدس.. والأديان السماوية

القدس مدينة قديمة معروفة لجميع المسلمين والمسيحيين واليهود أيضًا. ولا يختلف اثنان في العالم على مكانتها الدينية. وعندما يختلف المتصارعون حولها، فإن اختلافهم يدور حول أوضاعها السياسية؛ وباستثناء عدد قليل جدًا من المؤرخين، من كل المجموعات الدينية المرتبطة بالقدس، فإن الجميع يسلمون لها بالمكانة الدينية والتاريخية.

وكل المحاولات التي يقوم بها مؤرخو الصهاينة، لتزييف هوية المدينة، لا تنفي أبدًا مكانتها دينيًا عند المسلمين والمسيحيين؛ وإنما هي محاولات تستهدف تبرير استيلائهم على هذه المدينة المقدسة، بادعاء وجود رموز دينية مادية أكثر مما هو موجود. أضف إلى ذلك، أن الإسرائيليين يستهدفون من هذا الأمر، تحويل المعركة حول القدس من معركة سياسية حول السيادة، إلى معركة دينية عقيدية، لتصل في نهايتها إلى منزلق خطير, هو التصارع بين أصحاب الأديان، بما يثيره من حروب ومشاعر تعصبية هوجاء بين البشر.

ومنذ أن دخل الصراع بين العرب وإسرائيل مرحلته المعاصرة، وخاصة بعد الاستيلاء على القدس العربية وعلى بقية أراضي فلسطين عام 1967، تحاول إسرائيل استدراج العرب والعالم إلى هذه المعركة، التي تضع الديانات السماوية في مواجهة بعضها البعض ولا يعني ذلك أنه ليس للخطاب العقيدي دور، في دفع الناس إلى حماية المقدسات والحفاظ على الرموز الدينية الحضارية.

الاستيلاء على القدس عام 67
الاستيلاء على القدس عام 67

وفي ما يبدو، فإن الهدف الإسرائيلي الواضح من ذلك، وغيره من ممارسات هو “تحويل القدس من مدينة المقدسة عند مليارات المؤمنين من الأديان السماوية الثلاثة، إلى عاصمة يهودية  للدولة العبرية”. ولعل هذا هو ما يضعنا مباشرة، في مواجهة أهمية القدس ومكانتها عند كل من المسلمين والمسيحيين.. واليهود أيضًا.

بالنسبة إلى اليهود..

وكما يشير وهبة الزحيلي في “ندوة مستقبل القدس العربية، 1999” تشير أسفار العهد القديم إلى أهمية القدس والتعلق بها والحنين إليها. جاء في الإصحاح الثامن والأربعين من أسفار العهد القديم “حزقيال” (ص 1257) “أما المقدس فللكهنة من بني صادق الذين حرسوا حراستي، الذين لم يضلوا حين ضل بنو إسرائيل، كما ضل السلاويون، وتكون لهم تقدمة من تقدمة الأرض قدس أقداس، على تخم اللاويين”. وفي الإصحاح الثاني والخمسين من سفر “إشعيا” (ص 1056 – 1057): “استيقظي استيقظي، البسي عزك يا صهيون، البسي ثياب جمالك يا أورشليم المدينة المقدسة”.

ويعظم اليهود –ولا نقول الصهاينة– القدس ويترددون في صلواتهم وطقوسهم ومراسم عبادتهم، على “حائط المبكى” وساحة المبكى، زاعمين بأن هذا الجدار هو الجدار الخارجي لهيكل سليمان، الذي رممه هيوود عام 11 ق.م، ولكنهم نسوا أو تناسى حاخاماتهم بالأحرى، أن تيتوس قد هدمه عام 70 م، وجاء بعده هادريانوس وأزال آثاره كلها، وأصبح مكانه قاعًا مستويًا.

والواقع أن جدار المبكى هو حائط البراق الإسلامي، وهو قسم من الجدار الغربي لجدار الحرم القدسي الشريف؛ ويبلغ طوله 50 مترًا تقريبًا، وارتفاعه 20 مترًا، ويعد من الأوقاف الإسلامية، لأنه جزء من الحرم الشريف.

حائط المبكى

بالنسبة إلى المسيحيين..

يرتبط المسيحيون ارتباطًا عقيديًا بالقدس، ويحجون إليها من مختلف بلاد العالم إلى الآن، ما عدا الأقباط الأرثوذكس في مصر، حيث منعهم البابا شنودا من زيارة الأماكن المقدسة في القدس وبيت لحم وغيرها، مادامت ترزح تحت نير الاحتلال الصهيوني؛ وهذا موقف وطني وديني مشرف، على مدى التاريخ.

وكما يذكر فوزي رضوان العربي في: “ندوة مستقبل القدس العربية، 1999” يركز المسيحيون علي زيارة بيت لحم –أو بيت الخبز– جنوبي بيت المقدس، قيل إنها مسقط رأس السيد المسيح عيسى بن مريم –عليه السلام– كما جاء في إنجيل متى (ص 4). وتعرف القدس في الكتاب المقدس باسم بيت داود أحيانًا. وقد بني فيها الإمبراطور قسطنطين عام 330 م، كنيسة في الموضع الذي تذكر الروايات أنه شهد ميلاد المسيح. واسمها القديم إفرات كما في سفر التكوين (25: 16- 20/48:7).

وكانت القدس موضع عناية السيد المسيح عليه السلام، بنشر رسالته، حيث كان يطوف المدن كلها والقرى في فلسطين، يعلم في مجامعها، ويكرز ببشارة الملكوت، ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب الإسرائيلي.

بالنسبة إلى المسلمين..

فقد دل التاريخ القديم في عهد الكنعانيين واليبوسيين العرب، والجديد في العهد الإسلامي لمدة أربعة عشر قرنًا، أن أطول فترة بقيت فيها القدس تحت النفوذ الإسلامي والعربي، هي الفترة الإسلامية العربية.

ومنذ أن استولى الإسرائيليون على القدس، وعلى كل أراضي فلسطين، فإن العرب والمسلمين قاطبة متمسكون بحقهم في القدس القديمة، وسائر فلسطين لعديد من الأسباب.. من هذه الأسباب: الفتح الإسلامي للقدس، واستمرار القدس بأيدي المسلمين على مدى أربعة عشر قرنًا. ومنها ارتباط القدس بحدث الإسراء.. حيث يقول الله سبحانه “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ” [الإسراء: 1].. ويقول تعالى: “عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى • ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى • وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى • ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى • فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى • فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى • مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى • أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى • وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى • عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى • عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى” [النجم: 5 – 15].

فهاتان الآيتان، تربطان في عقيدة المسلم ضرورة الحفاظ على المحور المكي – المقدسي، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى تحت السيادة العربية الإسلامية.

بل، إن ما يؤكد أهمية القدس ومكانتها عند المسلمين، أن الأوائل منهم أطلقوا عليها اسمًا روحيًا يقترن ويتصل بجلال الله؛ فهو القدوس.. ولعلها المدينة الوحيدة التي تقترن بلفظ الصفة الإلهية؛ وهذا لم يأت من فراغ، وإنما يحمل دلالة روحية وعقيدية واضحة.

وإذا وازنا بين بيت المقدس أو القدس وبين أقدس مدينتين عند المسلمين، وجدنا أن مكة قد وصفت بالمكرمة، والمدينة بالمنورة. وهنا يبدو الفرق بين هاتين الصفتين وبين اسم القدس الذي أطلقه المسلمون على المدينة. فإذا تتبعنا الأوصاف التي وصفت بها المدينة، وجدنا ما يقرب من عشرين، فهي الساهرة والمباركة والمطهرة والقدس وبيت المقدس والقدس المحروس والقدس الشريف وبيت الله المقدس.

والواقع أن مثل هذه الأهمية والمكانة التي تتمتع بها مدينة القدس عند المسلمين، لهي أمر منطقي.. إذ لو لاحظنا الآية الكريمة، الآية الأولى من سورة الإسراء، وجدنا:

ـ إن الله سبحانه وتعالى قد ربط حركة الإسراء بنفسه، حين قال: “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى”.. وهذا يعني انتفاء هذا الفعل عن الذات المحمدية من حيث القدرة والاستطاعة.

ـ إن الآية، المشار إليها، ترتبط بقضية مهمة ذات دلالة، هي قضية التسمية. فالمسجد الحرام والمسجد الأقصى، هما المسجدان اللذان سماهما الله سبحانه وتعالى، ولم يسمهما بشر. ولهذا ارتبط تنزيه الله سبحانه وتعالى (سُبْحَانَ)، في الآية بالمسجدين معًا، مما كان له أعظم الأثر والدلالة في نفوس المسلمين.

ـ إن الآية ورد فيها المسجد الحرام والمسجد الأقصى عطفًا، وهو عطف يفيد الانتقال من الأول إلى الثاني.. أيضًا، في هذه الآية جاء ذكر “المعبود” وهو الله سبحانه، والرسول محمدًا عليه الصلاة والسلام، ومكان العبادة الأول وهو المسجد الحرام، ومكان العبادة الثاني وهو المسجد الأقصى… يتبع.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock