رؤى

مخيريق.. يهودي في صفوف جيش النبي

حين قدم النبي الكريم إلى يثرب مهاجراً إليها من مكة، لقي مجتمعاً من الأنصار هناك؛ تعهد له بالنصرة والدعم لذاته ورسالته بعد سنوات من الاضطهاد الذي لاقاه هو والمسلمون الأوائل -أو المهاجرين- في مكة.

لكنه في الوقت ذاته وجد مجتمعا متعدد الأديان والمعتقدات، إذ كان في يثرب مجتمع يهودي متمسك بعقيدته ويأبى الانضمام إلى العقيدة التي أتى النبي مبشراً بها.

وهنا تحديدا ولإيجاد سبيل للعيش المشترك بين مكونات هذا المجتمع الجديد.. صاغ النبي الكريم ما عُرف بصحيفة المدينة التي ساوت بين أهل المدينة على اختلاف عقائدهم في الحقوق والواجبات على حد سواء.

حيث أشارت الصحيفة إلى أن “لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم” في إقرار واضح لمبدأ الحرية الدينية.

وأضافت الصحيفة في موضع آخر أن “على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة”.

ولعل الفقرة الأخيرة هي المفتاح لفهم شخصية مخيريق العالم اليهودي الذي أبى إلا أن يقاتل مع جيش النبي دفاعاً عن مدينته.

يصف المؤرخ ابن اسحق، مخيريق بأنه “كَانَ حَبْرًا عَالِمًا، وَكَانَ رَجُلًا غَنِيًّا كَثِيرَ الْأَمْوَالِ مِنْ النَّخْلِ” فجمع بذلك بين العلم والمال واجتمعت له بالتالي المكانة والحظوة بين قومه من يهود المدينة.

ولعل إدراك مخيريق لجوهر الأديان جميعا سواء دينه اليهودي، أو دين النبي الكريم هو ما جعله يصر على الوفاء بعهد النبي كما جاء في صحيفه المدينة، أي نصرته على أي عدو غازٍ.

فحين حانت لحظة المواجهة بين مسلمي المدينة، ومشركي مكة في شهر شوال من العام الثالث للهجرة؛ أدرك مخيريق أن النفير هنا ليس محصورا في المسلمين بل في أهل المدينة كافة.

ناشد مخيريق قومه من اليهود أن يهبوا للقتال والوفاء بما أوجبه عليهم عهد المدينة من التزامات، ووفقا لرواية المؤرخ ابن هشام فقد قال مخيريق لقومه “يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، وَاَللَّهِ إنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّ نَصْرَ مُحَمَّدٍ عَلَيْكُمْ لَحَق”.

إلا أن يهود المدينة كانوا قد حزموا أمرهم على عدم المشاركة في القتال، معتبرين أنه شأن لا يعنيهم، واعتذروا لمخيريق بحجج واهية، وهي أن المعركة تصادف يوم السبت، وهم لا يعملون في السبت وفقا لشريعتهم.

لم يقتنع مخيريق بهذا المنطق، وهذه الذريعة ورد على قومه قائلا: “لَا سَبْتَ لَكُمْ” واستل سيفه وأصر على المسير مع جيش المسلمين.

إلا أن اللافت هنا أن مخيريق الذي كان يدرك تماما إمكانية أن يلقى حتفه في ميدان المعركة؛ أوصى بما له من ثروة للنبي الكريم حيث “عَهِدَ إلَى مَنْ وَرَاءَهُ مِنْ قَوْمِهِ: إنْ قُتِلْتُ هَذَا الْيَوْمَ، فَأَمْوَالِي لِمُحَمَّدٍ يَصْنَعُ فِيهَا مَا أَرَاهُ اللَّهُ”.

وبالفعل لحق مخيريق بجيش المسلمين، وسار معهم حتى جبل أحد، موضع المواجهة بين المسلمين والجيش المكي، وحين التقى الجيشان قاتل مخيريق المكيين وأبدى شدة في القتال.

إلا أن اليهودي الذي أبى إلا أن يفي بعهده قُتل في ميدان المعركة، وحين تفقد النبي الكريم جثامين الشهداء وجد جثة مخيريق على أرض المعركة فقال: “مخيريق خير يهود”.

ويضيف المؤرخ الواقدي أن الرسول صلى الله عليه وسلم امتدح مخيريق بقوله “مخيريق سابق يهود وسلمان سابق فارس وبلال سابق الحبشة”.

وحين عاد النبي الكريم إلى المدينة، عقب المعركة.. تسلّم أموال مخيريق كما أوصى، وهي سبعة حوائط (بساتين مثمرة) أسماؤها: الميثب والصائفة والدلال وحسنى وبرقة والأعواف ومشربة أم إبراهيم؛ فجعلها الرسول الكريم صدقة، فكانت أموال مخيريق بذلك أول وقف في تاريخ المدينة.

إن استحضار نموذج مخيريق،  والتأمل في قصته من شأنه أن يفنّد خطابين: أولهما خطاب صهيوني يصوّر ما كان من صراع بين نبي الإسلام  ويهود المدينة، على أنه صراع ديني بسبب رفض يهود المدينة الاعتراف بنبوته.

والملاحظ أن هذا الخطاب يتجاهل عهد المدينة، كما يتجاهل خيانة يهود المدينة لهذا العهد، وتحالفهم مع مشركي مكة في غزوة الأحزاب، وأن النبي الكريم لم يكن يقاتل هؤلاء اليهود؛ ليكرههم على اعتناق رسالته بل عقابا لهم على خيانتهم.

والخطاب الثاني هو خطاب إسلامي شديد التطرف والتشدد استبدل بالعداء للصهاينة العداء لليهود بشكل عام معتبراً أن المشكلة تكمن في كونهم يهوداً

إلا أن نموذج مخيريق، وموقف الرسول الكريم منه يُفنّد كلا الموقفين معا، ويؤكد أن العداء أو الإحسان في الإسلام لا يكون على أساس التوافق أو الاختلاف في العقيدة الدينية، بل على أساس العمل.. ذلك الأساس الذي جعله الخطاب القرآني مقياساً للثواب والعقاب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock