لعل أول ما يلحظه المرء في شأن المفهوم، الذي يتخذه مصطلح دولة في الفكر السياسي العربي الإسلامي (التراثي) أن ليس في هذا الفكر مفهوم محدد للدولة، وذلك على خلاف الاعتقاد الشائع في أوساط كثيرة، إسلامية وغير إسلامية.
وفي اعتقادنا أن مثل هذا القول، وإن كان لا يغض من شأن هذا التراث إذ إنه مجرد ملاحظة تاريخية بسيطة؛ فهو في الوقت نفسه لا يعني ولا يمكن أن يعني، أن التاريخ العربي/ الإسلامي لم يعرف الدولة والمجتمع. فالظاهرة موجودة ومستمرة، في صور عديدة، خلال الأربعة عشر قرنا الأخيرة.. ولكن المصطلح نفسه، لم يظهر في الفكر إلا خلال القرنين الآخيرين؛ أما المفهوم؛ فقد بقي خارج إطار التحديد، أو محاولة التحديد بالأحرى.
وهنا لابد أن نطرح هذا السؤال.. ما هي الأسباب الدافعة إلى غياب مثل هذا المفهوم؟.. وقبل ذلك إذا كان مفهوم الدولة، قد غاب في الفكر السياسي العربي الإسلامي، فماذا كان “الحاضر” في هذا الفكر، أي بماذا اهتم هذا الفكر، في ما يخص مسألة الدولة؟.. وقبل هذا وذاك ما هي الدلائل التي تؤكد غياب المفهوم بهذا الشكل الذي يمكن ملاحظته؟
حول مفهوم الدولة
في مواجهة هذا التساؤل –ذي الشعب– لابد من الإقرار بداية، أن مشتقات الجذر: د/ و/ ل الذي اشتقت منه لفظة دولة، لم ترد في النص القرآني إلا في موضوعين اثنين..
الأول في سورة آل عمران، حيث يقول الله تعالى: “إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ” [140]. وفي ما يبدو من سياق الآية فإن “تِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ” تشير إلى معنى التناوب وعدم الثبات (يقال داولت بينهم الشيء فتداولوه).
الثاني في سورة الحشر، حيث يقول الله سبحانه “مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ” [7]. وفي ما يبدو من سياق الآية فإن “كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ” تشير إلى معنى التناوب أيضًا، ولكن بين فئة محددة من الناس، هم الأغنياء (يقال الدولة اسم ما يتداول كالغرفة اسم ما يغترف).
وهكذا جاءت مشتقات الجذر: د/ و/ ل في النص القرآني، لتتضمن دلالة محددة.. التداول والمداولة، أي التناوب والتغير. ومن ثم لم يتضمن التنزيل الحكيم آية إشارة لفظية، من اشتقاق هذه اللفظة لمعنى الدولة بالمفهوم السياسي.
وقد كان هذا –في اعتقادنا– قمين من حيث التأثير البالغ للنص القرآني في البناء الدلالي لمفردات اللغة العربية، لأن تتمحور كافة معاجم اللغة حول ذات الدلالة التي تضمنتها مشتقات جذر: د/ و/ ل في القرآن الكريم.
فالدولة لغةً في “لسان العرب” هي “اسم الشيء الذي يتداول، والدولة الفعل والانتقال من حال إلى حال.. وقيل الدُّولة، بالضم، في المال، والدوَّلة، بالفتح، في الحرب، وقيل: هما سواء فيهما”.. ونفس الإطار الدلالي نصادفه في “القاموس المحيط” مع إضافة أن “الدولة لغة في الدَّلو وانقلاب الدهر من حال إلى حال، وبالتحريك النَّبل المتداول”.
بل، إنه ليس ثمة فارق يذكر في قاموس “محيط المحيط” سوى دولة كاشتقاق من فعل دال ويدول. والرجل دولا ودالة، صار شهرة أي مشهورًا.. وتطلق الدولة عند أرباب السياسة على الملك ووزرائه”.. أما في قاموس “المنجد” فنجد أن “الدولة كمصدر جمعها دِوَل ودُوَل، وهو ما يتداول فيكون مرة لهذا ومرة لذاك”.
هنا، تتأكد الملاحظة التاريخية البسيطة التي بدأنا بها هذا الحديث، التي مفادها أن ليس في الفكر العربي الإسلامي مفهوم محدد للدولة.. إذ يتبدى واضحًا، أن الدولة رغم كونها اسمًا، فهي في “لسان العرب” “فعل” متحرك متنقل وليست حالة ثابتة (كما في المفهوم الأوروبي، وجذره اللغوي اللاتيني).
وقد أدى غياب المفهوم بهذا الشكل، أو قل افتقاد المصطلح العربي للمفهوم التجريدي للدولة، بما هي كيان سياسي عام يشمل الأرض والشعب والسيادة، نعني سيادة الشعب على الأرض، كما تمارسها الحكومة، فتسمى حينئذ سلطة.
أدى غياب المفهوم إلى أن تأسست الرؤية العربية الإسلامية للدولة، على معنى التحول والتبدل والتداول من حال إلى حال، دون ثبات دائم على نحو معين أو وضعية بعينها.. وهو المعنى النابع من الدلالة التي يتضمنها الجذر اللغوي: د/ و/ ل ومنه دال ويدول.
حول إشكاليات المفهوم
وفي ما يبدو فإن ثمة إشكاليات في المفهوم النابع من الدلالة إياها.. وهي إشكاليات عبرت عن نفسها في جوانب متعددة، لعل من أهمها أن ثمة ارتباط في المعنى اللغوي لمصطلح الدولة بفكرة التداول، أو التناوب والتغير، وهو ـفي ما يبدوـ ارتباط بالفعل، وما يتضمنه من حركة، وانصراف عن الاسم بما ينطوي عليه من ثبات واستمرار.
لذا، لم يكن غريبًا أن تتخذ الدولة، من التحول والتبدل والانقلاب، وضعًا لها في الذهنية العربية، يكاد أن يكون مركزيًا. ومن ثم، يمكن التشديد على الملاحظة التي أشار إليها محمد جابر الأنصاري في كتابه “التأزم السياسي عند العرب، 1999” من أن “مصطلح دولة لم ينسب في العربية إلى الكيانات الجغرافية الإقليمية، فلم يكن شائعًا القول “دولة مصر” أو”دولة الشام”… ولكن على العكس قيل الدولة الأموية سواء في المشرق أو الأندلس، والدولة العباسية، ودولة المرابطين، ودولة الموحدين…إلخ، مهما اتسعت أو تقلصت الكيانات والحدود الجغرافية الإقليمية لهذه الدول.
ولعل هذا المنحى الذي اتخذه المعنى اللغوي لمصطلح الدولة أي ارتباطه بفكرة التداول، أو التناوب والتغير، كان قد تواكب مع ما يمكن أن نطلق عليه “إشكالية التعدد ـ التوحد”، في ما يتعلق بظاهرة الدولة في التاريخ السياسي العربي/الإسلامي.
إذ يكفي أن نلاحظ أن العرب قد عايشوا هذه الإشكالية، وتعايشوا معها، على مدى قرون طويلة، في ظل دولة الخلافة الإسلامية التي كانت ـفي حقيقتهاـ تعبر عن خلافات-من الخلافة- أموية وعباسية وفاطمية وعثمانية أو بالأحرى في ظل تعدد السلطنات والدويلات والإمارات التابعة لها، والمنفصلة عنها والعائدة إليها في دورات متعاقبة.
كيف؟… يتبع.