مختارات

آزوف..حرب لا مفر منها!

نقلًا عن صفحة د.عاطف معتمد، أستاذ الجغرافيا السياسية

قبل ما يقرب من 200 سنة أصدر رفاعة الطهطاوي خلال إشرافه على مدرسة الطوبجية (المدفعية) كتابا في الجغرافيا جاء فيه ذكر بحر “آزاق” وهو مسمى لا يمكن أن نجد له مقابلا في الجغرافيا المعاصرة، إذ اختفت هذه الكلمة بل ومحيت من الأطالس العربية والعالمية.

وحقيقة الأمر أن كلمة “آزاق Azak ” تعادل اليوم مسمى “آزوف Azov” ذلك البحر الذي تدور فيه المعارك حاليا بين روسيا وأوكرانيا.

استخدم الطهطاوي الرسم التركي للكلمة التي كان يطلقها تتار القرم على ذلك البحر قاصدين به معنى الأرض المنخفضة أو الواطئة، في إشارة إلى طبيعة المياه الضحلة والأرض المستوية في هذا الإقليم.

زرت الشطر الروسي من بحر آزوف قبل ست سنوات، وحين وصفته بكلمات خفيفات من أدب الرحلة قلت إنني لا أشعر باختلاف كبير بين أزوف وبحيرة البرلس أو المنزلة على مشارف المتوسط. فالأرض هنا ضحلة، ومصائد الأسماك غنية والزراعة ممهدة، هي ببساطة النموذج المصري لما نسميه “البراري” قبل التدهور الذي أصاب الأراضي المصرية وتراجع قدراتها البيئية والإيكولوجية.

بحر آزوف
بحر آزوف

ولأن البراري المصرية تدهورت فقد كتبت وقتها أن أقرب نموذج لأرض آزوف الروسية هي براري دولة رومانيا عند مصب نهر الدانوب التي زرتها على الشطر الغربي من البحر الأسود وتحمل مسميات تشبه البراري المصرية بما فيها مسمى “المحمودية” بل و”رشيد”، ذلك لأن براري رومانيا صيغت الأسماء فيها حين كان التأثير العثماني حاضرا بقوة في كل من مصر ورمانيا قبل قرون طويلة مضت وكانت أسماء السلطان محمود واستعارة اسم رشيد المصرية حاضرة في رومانيا، بل إن رومانيا استعارت اسم “سيناء” وأطلقته على واحدة من هضابها الوسطى بعد أن افتتن أحد أمراء رومانيا بسيناء المصرية.

الشطر الروسي من بحر آزوف لا يزيد عن 100 كم بينما الشطر الأوكراني يتجاوز 500 كم من سواحل هذا البحر. زد على ذلك أنه قبيل الحرب الأخيرة كان الشطر الروسي من بحر أزوف مشطورا مفصولا معزولا عن شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا في عام 2014.

قبل أزمة القرم 2014 كانت سواحل بحر آزوف هي نهاية الأرض الروسية على البحر الأسود من جهة نهر الدون. لكن ضم القرم فتح الباب أمام خيار لا مفر منه ولا تراجع عنه، أي استكمال الخطوة بنقلة عسكرية جديدة لوصل كل الأقاليم ببعضها البعض تجنبا لأي استرداد أوكراني.

في الأيام القليلة التي أمضيتها في منطقة آزوف كان كل شيء يذكرك بالحرب الروسية التركية التي استمرت قبل قرون عدة. فالبلدة الرئيسة تسمى أيضا “أزوف” وعلى تل مرتفع منها تتربع قلعة عسكرية تحولت إلى مزار ومتحف باهر التنظيم والنظافة والإبداع، يفتخر المتحف والقلعة بتاريخ الصراع بين الأتراك والروس قبل 300 سنة والذي انتهي بسيطرة روسيا على قلعة آزوف بشكل نهائي.

اليوم وفي أبريل 2022 نتابع تكثيف النيران الروسية المنطلقة من إقليم آزوف تجاه مدينة “لفوف” أبعد المدن الأوكرانية تجاه معسكر الناتو، لفوف بالتعبير الروسي تقع على مرمى حجر من بولندا، التي صارت مركزا لحلف الناتو الداعم لأوكرانيا أو بالأحرى – وكما نوهت مرارا – الذي “غرر” بأوكرانيا وورطها هذه الورطة الدموية.

جزيرة القرم
جزيرة القرم

كانت كثافة النيران متوقعة بعد تعريض سمعة روسيا للضرر قبل يومين إثر إغراق البارجة الحربية “موسكفا” في البحر الأسود، وهي حادثة يصفها أحد الخبراء الأوربيين ليلة أمس بالضربة المؤلمة لسمعة روسيا بشكل لم يحدث منذ حرب اليابان قبل أكثر من قرن مضى. تقول كييف إنه لم يكن من بد للقوات الأوكرانية من ضرب البارجة وهي تمثل أكبر تهديد لمدينة أوديسا في جنوب غرب البلاد.

علاوة على ما سبق يكتسب بحر آزوف أهمية تاريخية في تكوين الدولة الروسية قبل أكثر من 300 سنة حين قام المصلح الروسي الكبير “بطرس الأكبر” بتشييد أول أسطول في المياه الدافئة ينطلق من نهر الدون ويصل إلى بحر آزوف ومنه للبحر الأسود.

صحيح أنه من المبكر الحكم على نتائج الحرب الدائرة حاليا، لكن روسيا التي تتكبد خسائر اقتصادية تخلق رغم ذلك جغرافيا عسكرية جديدة تجمع بها ثلاثة أقاليم معا في إقليم واحد:
– بحر آزوف بشقيه الروسي والأوكراني
– الأقاليم الشرقية من أوكرانيا ذات الثقافة واللغة والتعاطف مع موسكو والملتحمة مع البنية الأساسية للأراضي الروسية
– شبه جزيرة القرم

على هذا النحو يعد استيلاء روسيا على بقية بحر أزوف نتيجة متوقعة لتحويله من بحر روسي – أوكراني إلى بحيرة روسية خالصة وهي خطوة سيترتب عليها كثير من تغيرات الجغرافيا السياسية والعسكرية في شرق أوروبا خلال العقود المقبلة.

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker