رؤى

حكايات شوارع المحروسة.. شارع “الخرنفش” منطلق مَحْمَل الكسوة المشرفة إلى المشاعر المقدسة

“الخرنفش” ليس مجرد شارع من شوارع القاهرة، وإنما كان اسما لواحد من أهم أحيائها التاريخية، في عهد الدولة الفاطمية. يحده من الغرب حارة خميس العدس وحارة اليهود، ومن الجنوب عطفة المصفى وعطفة الذهبي، ومن جهة الشرق حارة البرقوقية. ويتمتع الشارع بأهمية كبيرة، وذلك لكثرة الآثار الموجودة به.

وبحسب المؤرخين؛ فإن اسم الشارع قد تعرض للتحريف، حيث كان يعرف قديما باسم “الخرنشف” طبقا لما أكده “القلقشندي” وبحسب ما أكده أيضا ابن تغري بردي “كان الشارع قديما ميدانا للخلفاء، فلما تولى المعز أيبك التركماني، بنوا به إصطبلات، وكذلك القصر الغربي، وكانت النساء اللاتي أخرجن منه؛ سَكَنَّ بالقصر النافعي، فامتدت الأيدي إلى طوبه وأخشابه وحجارته، فتلاشى حاله وتهدم وتشعث، فسمي بالخرنشف لهذا المقتضى، وإلا لكان هذا الميدان من محاسن الدنيا”.

لكن جزءا كبيرا من شهرة الشارع؛ يعود إلى حارة “عدس” حيث يقع مبنى دار كسوة الكعبة المشرفة، التي ظلت تعمل حتى سنة 1962، وأمامها مباشرة يقع مبنى كسوة الكعبة، وعلى بعد خطوات قليلة منه تقع بغض المنشآت التاريخية التي أقامها محمد علي باشا.

وكانت الكسوة تخرج عقب احتفال كبير، يقام بالشارع في موكب ضخم؛ عُرف باسم “المَحْمَل” يحضره كبار المسئولين، وعدد كبير من المواطنين؛ ثم تنتقل بعد ذلك لتواصل رحلتها حتى تصل إلى المشاعر المقدسة، في مناسبة مازالت مشاهدها عالقة بذاكرة الكثيرين.

صلة شارع الخرنفش لم تنقطع أبدا بتاريخ مصر، طوال فتراته ففي داخله تقع واحدة من أشهر المدارس في مصر، هي مدرسة “القديس يوسف” والتي أقيمت في يوليو عام 1858، وتخرج فيها الكثير من أشهر زعماء مصر من بينهم: الزعيم سعد زغلول، والزعيم مصطفى كامل، ومن الفنانين درس فيها كل من: نجيب الريحاني وفريد الأطرش ورشدي أباظة وعبد الفتاح القصرى والمغنى والملحن داود حسنى.

عندما تأخذك قدماك للشارع الذى فقد الكثيرمن بريق ماضيه العريق، حيث يبدأ اليوم من زقاق ضيق مزدحم بالسيارات؛ فإنك ستكتشف سريعا أنك تقلب بعينيك في صفحات واحد من أقدم كتب التاريخ، حيث ستجد أمامك مباشرة واجهة وكالة صناعة الأجولة “الخيش” التي تشير إلى انتماء الشارع إلى القرون الوسطى، وبعدها تطل واجهات محلات بنيت حديثًا مكان البيت الذي أقام الموسيقار محمد عبد الوهاب فيه، بعد أن غادر بيت أسرته بحي باب الشعرية.

استمد الشارع جزءا كبير من شهرته، من دار الخرنفش التي أقامها الأمير سيف الدين أبو سعيد خليل، الذي ولد في مدينة حلب، وجاء إلى مصر، وهو مازال طفلا؛ فرباه الملك الأشرف خليل وعلّمه فنون الفروسية.

ولهذا الأمير حكاية تستحق أن تُروي، فبعد أن اعتلى السلطان الناصر محمد بن قلاوون العرش المملوكي، قرَّبه إليه وأنابه عنه في حكم دمشق، غير أنه لم ينعم بهذا المنصب ورضا السلطان طويلاً، فقد وشى به بعض الوشاة، فغضب عليه السلطان، وأحضره إلى القلعة وجرده من مناصبه وأمواله، وسجنه بالإسكندرية، حيث مكث شهرًا ثم نفذ فيه حكم الإعدام.

سكن دار الخرنفش بعد الأمير سيف الدين أبو سعيد، قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة، ثم اشتراها الشيخ زين الدين عبد الباسط بن خليل، وظل أحفاده يتوارثونها إلى أن اشتراها عباس باشا، قبل أن يجلس على عرش ولاية مصر، وجددها وسماها بالإلهامية، لكي ينسبها إلى ابنه إبراهيم إلهامي باشا، وبعد إلهامي اشتراها خليل بك يكن، ثم منحها الخديو إسماعيل إلى نقيب الأشراف السيد علي البكري، بعد أن اضطر إسماعيل لهدم داره التي كانت بالأزبكية؛ حين شرع في تنظيمها على الأسس الأوروبية.

عاش شارع الخرنفش فترة من أزهى الفترات خلال دولة الفاطميين في مصر، حيث كانت تقع به دار الوزارة، وبعد ذلك أصبح مقرا رسميا لاستقبال المبعوثين والرسل، وفي عهد صلاح الدين الأيوبي تحولت دار الوزارة إلى سجن لأولاد آخر الخلفاء الفاطميين الذين تولوا عرش مصر، وبالقرب منها أنشئت دار الحكمة التي كانت تحوى مجموعة كبيرة من الكتب قبل أن تتحول بعد ذلك إلى مقصد للأطباء والعلماء.

لسنوات بعيدة مضت كان أغلب المصريين ممنوعون من الاقتراب من أحد جوانب شارع “الخرنفش” حيث تقع حارة الأمراء، التى كان يحرم على الجميع سكنها باستثناء الأشراف من أقارب الخليفة، وعاش فى هذه الحارة فيما بعد شقيق صلاح الدين الأيوبي شمس الدولة توران شاه، فغيِّر اسمها إلى درب شمس الدولة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock