رؤى

قراءات إسلامية (3): الدولة.. وإشكاليات المعنى السياسي

في إطار الاقتراب من مصطلح الدولة، وما ينطوي عليه من دلالة.. لنا أن نلاحظ أنه في حين يشير الأصل اللاتيني (Status) إلى الحال ومنه جاءت اللفظة الإنجليزية (State) والفرنسية (Etat) يتمحور المصطلح في اللغة العربية (دال، يدول، دولة ) حول التبدل والغلبة.

ولعل هذا المنحى الذي اتخذه المعنى اللغوي لمصطلح الدولة، في الفكر العربي الإسلامي (أي الارتباط بفكرة التداول، أو التناوب والتغير) كان قد تواكب مع ما يمكن أن نطلق عليه إشكالية التعدد/التوحد، في ما يتعلق بظاهرة الدولة في التاريخ السياسي العربي.

إذ يكفي أن نلاحظ أن العرب قد عايشوا هذه الإشكالية وتعايشوا معها، على مدى قرون طويلة، في ظل دولة الخلافة الإسلامية التي كانت ـفي حقيقتهاـ تعبر عن “خلافات” أموية وعباسية وفاطمية وعثمانية؛ أو بالأحرى في ظل تعدد السلطنات والدويلات والإمارات، التابعة لها، والمنفصلة عنها، والعائدة إليها، في دورات متعاقبة.

الحضارة الإسلامية

حول إشكاليات التغير

وفي ما يبدو هكذا، فإن ثمة إشكاليات في المعنى السياسي النابع من الدلالة إياها، وهي إشكاليات عبّرت عن نفسها في جوانب متعددة، لعل من أهمها، أن ثمة ارتباط في المعنى اللغوي لمصطلح الدولة بفكرة التداول، أو التناوب والتغير، وهو ـفي هذا الإطارـ ارتباط بـالفعل، وما يتضمنه من حركة وانصراف عن الاسم بما ينطوي عليه من ثبات واستمرار.

لذا، لم يكن غريبًا أن تتخذ الدولة، من التحول والتبدل والانقلاب، وضعًا لها في الذهنية العربية، يكاد أن يكون مركزيًا. ومن ثم يمكن التشديد على الملاحظة التي أشار إليها محمد جابر الأنصاري في كتابه “التأزم السياسي عند العرب، 1999” والتي أشرنا إليها في حديثنا السابق عن “إشكاليات غياب مفهوم الدولة” من أن مصطلح دولة لم ينسب في العربية إلى الكيانات الجغرافية الإقليمية، فلم يكن شائعًا القول دولة مصر أودولة الشام.. ولكن على العكس قيل الدولة الأموية سواء في المشرق أو الأندلس، والدولة العباسية، ودولة المرابطين ودولة الموحدين… إلخ. مهما اتسعت أو تقلصت الكيانات والحدود الجغرافية الإقليمية لهذه الدول.. هذا من جانب،

من جانب آخر، كان ثمة اختزال في المعنى البنائي لمصطلح الدولة، في أحد مقوماتها، أي الحكومة، دون ما المقومات الأخرى؛ وهي ـفي هذا الإطارـ تجسيم لأحد مظاهر الدولة، بالمعنى الحديث، وخاصة فيما يتعلق بممارسة السيادة.

ومن ثم، يمكن التشديد على الملاحظة التي أشار إليها نزيه نصيف الأيوبي، في كتابه “العرب ومشكلة الدولة، 1992” من أن “حديث مفكري السياسة المسلمين كان يدور حول الجماعة السياسية وليس حول الدولة. أما فقهاء الشريعة من قبيل المواردي والغزالي فكانت كتاباتهم تدور حول موضوع الحكومة، وليس موضوع الدولة. وأما كتاب الأدب والحِكَم من قبيل نظام الملك وابن المقفع فركزوا اهتمامهم على نصيحة الحاكم واستخلاص الملاحظات حول سلوكه، دون أن يهتموا بموضوع الدولة في حد ذاته”.

العرب ومشكلة الدولة

ولعل هذا المنحى الذي اتخذه المعنى البنائي لمصطلح الدولة، أي اختزال المعنى في الحكومة، أو الجماعة الحاكمة، كان قد ساهم في التحول نحو شخصية الدولة، أو قل نحو رؤيتها كدولة شخصية حسب تعبير ابن خلدون، كدولة معاوية أو يزدجرد أو المأمون أو صلاح الدين.

ولعل هذا نفسه هو ما يشير إلى إشكالية أخرى، في ما يتعلق بظاهرة الدولة في التاريخ السياسي العربي، تلك التي يمكن أن نطلق عليها إشكالية الجبر/ الاختيار.. وهي الإشكالية التي دفعت الرؤية الواقعية للدولة إلى أن تقترب من الطرف الأول: الجبر لتتمحور حوله، ولتتخذ سلطتها –سلطة الحكم فيها– وصفة المُقَدّر جبرًا بصروف الدهر أكثر من تأثره باختيار الإنسان.

حول إشكاليات “الغلبة”

من جانب أخير، كان ثمة ارتكاز في المعنى السياسي لمصطلح الدولة، على قاعدة النظر إلى الآخر أي الملك؛ وهي ـفي هذا الإطارـ نظرة إلى الطبيعة الدنيوية والقهر السياسي للدولة. صحيح أن كافة معاجم اللغة كانت قد تمحورت حول التداول والمداولة، أي التناوب والتغير.. إلا أنه يبقى من الصحيح أيضًا أن ثمة معنى للدولة كامن في هذه المعاجم نفسها، وهو الغلبة.

إذ، كان يقال “كانت لنا عليهم الدولة” أي “استظهرنا عليهم”. وفي “أساس البلاغة” للزمخشري: “أديل المؤمنين على المشركين يوم بدر، وأديل المشركون على المسلمين يوم أحد”. ولعل هذا المعنى (الغلبة) المرتكز على قاعدة النظر إلى الآخر (الملك) هو ما يساعد على فهم قول عمر بن الخطاب، كما أورد الطبري نصه في تاريخه، الذي قد يبدو غريبًا “لا ملك على عربي” وقوله “إنه ليقبح بالعرب أن يملك بعضهم بعضًا وقد وسع الله وفتح الأعاجم”.

أساس البلاغة

بل هو المعنى ذاته، ما يدفعنا إلى التشديد على الملاحظة التي أشار إليها عبد الله العروي، في كتابه “مفهوم الدولة، 1981” من أنه “كان العرب يعرفون دولة ذات طبيعة دنيوية دهرية، هدفها في ذاتها، بمعنى أنها كانت تتوخى الشهرة والمال والقهر. ولنا في حوادث بداية الدعوة المحمدية أدلة على تصور زعماء قريش لأهداف المجتمع، إذ قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: أتريد ملكًا؟

ولعل هذا المنحنى الذي اتخذه المعنى السياسي لمصطلح الدولة أي ارتكازه على قاعدة النظر إلى الآخر أو الملك، كان قد دفع في اتجاه إشكالية اعتملت وعبرت عن نفسها في التاريخ السياسي العربي في ما يتعلق بظاهرة الدولة؛ إنها تلك التي يمكن أن نطلق عليها إشكالية الآخر/ الأنا وهي نفسها الإشكالية التي مثلت أحد أهم العوامل في ترسخ الغلبة (المعنى الكامن) حول الطرف الأول الآخر؛ فترتبط به ليهيمن هو عليها في المخيال السياسي العربي العام.

وفي ما يبدو هكذا، فإن الدائرة المكونة من هذه الجوانب الثلاثة: ارتباط المعنى اللغوي بفكرة التناوب والتغير، واختزال المعنى البنائي في الحكومة، وارتكاز المعنى السياسي على المُلك.. –هذه الدائرة– تشير إلى إن الأزمة المتجذرة في التاريخ السياسي العربي الإسلامي، بخصوص ظاهرة الدولة، رؤيتها وتصورها وكيفية التعامل معها.

إنها الأزمة التي لم يعبر عنها فقط غياب مفهوم محدد للدولة في الفكر.. بل عبرت عنها أيضًا الإشكاليات إياها، إشكاليات المعنى “التعدد ـ التوحد”، “الجبر ـ الاختيار”، “الآخر ـ الأنا”.

صحيح أن أيًا من هذه الإشكاليات، لم يُحسم نهائيًا لصالح أي من أطرافها.. إلا أنه يبقى من الصحيح، في اعتقادنا، أن المسار السياسي في التاريخ العربي الإسلامي، كان يدفع في اتجاه ترسخ الأطراف الأولى لهذه الإشكاليات حول الدلالة التي ينطوي عليها مصطلح الدولة، والمعنى الكامن في إطاره أي حول التناوب والغلبة.

كيف؟… يتبع.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock