رؤى

“الصراط المستقيم”.. مفهوم الوسطية في تفسير الشيخ شلتوت

كما دأب اغلب من تصدوا لمهمة تفسير معاني القرآن الكريم، كان من الطبيعي أن يبدأ الفقيه المصري الشيخ محمود شلتوت الذي شغل منصب شيخ الجامع الأزهر، ما بين عامي ١٩٥٨، وحتى وفاته ١٩٦٣، تفسير الكتاب المبين بسورة الفاتحة.

لكن اللافت في تفسير الإمام الراحل، هو ما يطرحه من تفسير لتعبير “الصراط المستقيم” الوارد في هذه السورة، فالصراط المستقيم عند شلتوت هو ببساطة الدين الاسلامي.

حيث أن الإسلام كما يوضح الشيخ؛ ظهر في عالم كان يتردد بين الإفراط والتفريط، والإسلام يرفض كلا الأمرين، لأن العالم لا يصلح بأي من هاتين الخطتين.

حيث أنهما منافيتان للفطرة الإنسانية، تتعارضان وسنن الاجتماع. ويطرح الإسلام -وفقا لشلتوت- في المقابل “الوقوف عند الحد الوسط في كل شيء لضمان البقاء والإصلاح”.

فشريعة الإسلام جاءت وسطا لا إفراط فيها ولا تفريط، وأحكامها مهما تنوعت وتشعبت، لا تخرج عن هذه الدائرة، وهذا في مختلف فروعها.

ففيما يتعلق بالتوحيد –وهو أساس العقيدة– يقف الإسلام في الوسط بين من ينكرون وجود الخالق، وبين من يقولون بالتعدد، وبالتالي يجعلون للخالق أندادا.

تفسير شلتوت

أما على الصعيد الأخلاقي الذي عُني به الإسلام أيما عناية؛ فإن الشرع يقف أيضا موقفا وسطا، بين من يتحللون من الأخلاق والفضائل، ويعتبرونها أمرا نسبيا وغير ملزم لهم، ومن يتطرفون أو يتشددون في تصورهم للفضيلة، فالإسلام يؤكد أن الفضيلة وسط بين رذيلتين.

فالشجاعة التي يمدحها الخطاب القرآني هي وسط بين الجبن والتهور، والإنفاق في الإسلام ينبغي أن يكون وسطا، بين البخل والتبذير والتواضع المطلوب هو وسط بين الاستكبار والتذلل.

والحياة في التصور الإسلامي، هي الوسط بين المادية البحتة التي تحصر احتياجات الإنسان في إشباع رغباته الغريزية، والروحانية البحتة التي تنصرف عن الحياة تحت مسمى الزهد.

بل إن الشريعة ذاتها وعلى عكس ما يتصور البعض؛ هي وسط أيضا كما يؤكد الشيخ الجليل؛ فلا الخالق ترك البشر يُشرعون كيفما شاءوا وفقا لأهوائهم، ولا هي قيدت البشر بتشريع محدد جامد.

بل هي “نصت وفوضت” بتعبير شلتوت، حيث نصت على تشريعات محددة في مسائل كالعبادات والمواريث وغيرها، وفوضت المُشرع بوضع ما يتناسب مع زمانه ومكان إقامته، فيما تختلف المصالح فيه بتغير الأزمنة والأمكنة والأشخاص.

ورؤية الإسلام للفرد، هي وسط بين تركه طليقا يفعل ما يروق له، وإن كان على حساب الآخرين ولا هي ألغت شخصيته وجعلته تابعا للجماعة كطير في سرب.

بل أقرت حقوقا فردية كالحق في الاعتقاد والحق في الملكية، وأوجبت في الوقت ذاته على الفرد حقوقاً تجاه المجتمع مثل الدفاع عنه في حال وقوع عدوان عليه وبذل ماله لمنع التفاوت في الثروة في المجتمع أيضا.

والأمر ذاته ينطبق على الأمة ككل، حيث أن الوسطية هنا تحمي الأمة من أن تكون تابعة ذليلة لغيرها من الأمم، مُقرة لها بحقها في الدفاع عن ذاتها، وفي الوقت ذاته تمنع الأمة من أن تكون معتدية على غيرها، ظالمة لهم مستبيحة لحقوقهم.

لذا فإن القتال في الإسلام محصور في أسباب محددة هي دفع الظلم والعدوان وإقرار حرية الاعتقاد والدفاع عن الوطن.

وفي المقابل فإن الإسلام يبيح للأمة أن تٌنشأ ما تريد من علاقات الود وأواصر التعاون والصداقة مع من لا يعتدي عليها في الدين أو الوطن.

ويخلص الشيخ محمود شلتوت إلى أن هذه الوسطية الاسلامية -اذا صح التعبير- هي الصراط المستقيم والمبدأ الوسط الذي تسير عليه الشريعة؛ ولذلك فإن من يسير على هذا الفهم لها هم من وصفهم الخالق تعالى بقوله “صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ” (الفاتحة-٧).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock