مقدمة:
بطرس البستاني(1819-1883) أديب لبناني وموسوعي ومربي ومؤرخ، أول من ألف موسوعة باللغة العربية في العصر الحديث؛ هي دائرة المعارف التي تسمى قاموس عام لكل فن ومطلب، ويلقب بالمعلم بطرس.. كما ألف قاموس محيط المحيط، وهو أول قاموس عصري في اللغة العربية، كما اشترك مع كورنليوس وفان ديك في ترجمة العهد القديم إلى اللغة العربية. وهو أكثر من يستحق لقب الريادة بين جميع رواد نهضتنا العربية الحديثة، لما قام به من إنجازات ثقافية وعلمية وحضارية ميّزت بطابعها فكر النصف الثاني من القرن التاسع عشر وثقافته، ما جعل المستشرق الروسي ز.ل ليفين يعتبره بحق أبا التنوير العربي، كما وصفه مارون عبود بصفة الفرد الذي قام بأعمال تعجز عنها الجماعات. وتقول فيه مجلة المقتطف “إذا أعملنا النظر في الأعمال التي اصطنعها هذا الرجل؛ لفاقت أعماله ثلاثة رجال من فضلاء الناس بعيدي الهمة، ماضي العزيمة، غزيري العلم”. كما أن من أهم إنجازاته تأسيس مدرسة وطنية عالية راقية. كما يعتبر البستاني أول من أنشا مجلة هادفة سامية سميت نفير سورية. و يعتبر البستاني من المفكرين الليبراليين الذين قدموا الفكر الليبرالي العلماني كمخرج واقعي وعصري لأزمة المجتمع العربي في مواجهة إشكالية التخلف والتقهقر الحضاري. وقد جمع في شخصيته الفذة بين الحماسة لمدنية الغرب والاعتزاز باللغة العربية والتراث العربي. لذا استحق بجدارة لقب “أبو التنوير العربي”.
حياته و مؤلفاته:
كنيته البستاني.. وهو لقب لأسرة مارونية مشهورة، أنجبت رجالا كانوا يجيدون اللغة العربية، وقدموا للأدب خدمات جليلة ومتنوعة.. وقد ولد البستاني في قرية دبيه، وهي إحدى القرى اللبنانية من قضاء الشوف في عام 1819، وتلقى علومه في اللاهوت والشرع الكنسي، ودرس الإنجليزية على نفسه. وفي عام 1840، ذهب إلى بيروت واتصل ببعض المبعوثين الأمريكيين يعلمهم العربية، ويعرب لهم الكتب، واستعانوا به على إدارة الأعمال في مطبعتهم. عُيّن بطرس أستاذا في مدرسة عبيه عام 1860، فمكث فيها سنتين، ثم عُيّن ترجمانا للقنصلية الأمريكية في بيروت. ولقد قام البستاني بدور كبير في توعية أفراد شعبه، وقام بدور تنويري للشعب، فانشأ جريدة نفير سورية وهي أول جريدة وطنية.. دعا فيها إلى الآلفة ونبذ الأحقاد، كما أنشا المدرسة الوطنية فأمَّها الطلاب من مختلف الطوائف ومختلف المناطق، ومن البلدان المجاورة ليتعلموا فيها، ومن جملة ما يتعلمونه اللغة العربية واللغة الانجليزية ومحبة الإنسان والتعلق بالأوطان. ولقد ترك لنا البستاني مؤلفات في مختلف مجالات العلم، وآثارا كان لها أبلغ الأثر في ثقافة عصره. فقد اشتغل بالتأليف فصنف كتبا عديدة في الحساب والنحو والصرف واللغة، وأنشأ –مستعينا بابنه الأكبر سليم– أربع صحف هي بالإضافة إلى نفير سورية، الجنان والجنة والجنينة، وكانت جميعها صحفا سياسية وأدبية وأسبوعية أو يومية. ولعل أبرز آثاره العلمية والثقافية هو دائرة المعارف التي عرفها بقوله أنها قاموس عام لكل فن ومطلب. أما الأثر الثاني الباقي فهو معجم محيط المحيط، وهو أول قاموس عصري في اللغة العربية طبعه في مجلدين كبيرين في بيروت عام 1870، ورفعه إلى السلطان العثماني فمنحه الوسام المجيدي الثالث، ولا يزال هذا المعجم أحد أهم المعاجم العربية الحديثة، ويحتاج إليه كل عالم لغة وطالب بحث؛ رغم مرور أكثر من مئة عام على تأليفه، وذلك لأنه رتبه على حروف المعجم باعتبار الحرف الأول من الثلاثي المجرد، وجمع فيه كثيرا من مصطلحات العلوم و الفنون.
اللغة العربية وعشق البستاني:
بداية نشير هنا إلى حقيقة هامة، وهي أن البستاني لم يكن وحده من يعتقد أن الإصلاح اللغوي مسالة مركزية في الصحوة العربية الثقافية، بل كان هناك أيضا الطهطاوي. ومن هنا ترجم البستاني ألفاظ من اللغات الأوروبية إلى العربية مستخدما الآليات نفسها لدى الطهطاوي كالتعريب وتجديد الألفاظ العربية القديمة والعالمية. ومن خلال عشقه للغة العربية ورؤيته لها بأنها لغة عالمية، تستوعب بألفاظها الكثير من المعاني. ولقد خلص إلى فكرة مفادها أن الحركة الأدبية تفرض مهام عاجلة على صعيد إجراء تغيير ملموس في بنية اللغة العربية وجوهرها. ومن خلال كلامه عن ثراء اللغة العربية بالمترادفات والمتجانسات قال البستاني أن اللغة التي تعبر عن مفهوم واحد وكلمات عديدة، ولا تملك القدرة على التعبير بكلمة واحدة ووحيدة عن مفاهيم عديدة لا يجب من حيث الجوهر اعتبارها لغة غنية بل فقيرة. ومن خلال اهتمامه باللغة العربية إلى درجة العشق اهتم البستاني بتطوير علم الصرف والنحو، كما يرى في هذا السياق ضرورة تقريب اللغة الفصحى من اللغة العامية، وإذا لم يتم ذلك فأنه سوف يؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها؛ إذ ستصبح هذه اللغة ميتة بالنسبة للإنسان العربي المعاصر، كما حدث للغة اللاتينية عند الشعوب الرومانية، ولغة الكرابار الأرمنية القديمة، أو لليونانية القديمة لدى أهل اليونان المعاصرين.
اعتمد بطرس على مفاهيم الصرف والنحو من أجل القيام بذلك التقريب بين اللغة العامية والفصحى.. وفي هذا السياق كان البستاني على دراية تامة أن تمكين اللغة وترسيخها يحتاج إلى القبول، التداول والترسيخ، أي أن تقبل اللغة من خلال تقريبها إلى الناشئة لا تصعيبها عليهم، وتداولها بالمخاطبة والاستخدام في الأماكن الضيقة، وترسيخها من خلال التكرار والإعادة على الدوام. ويشير إلى أن تلك التي تحفظ اللغة كأسلوب تواصل يصل إلى العالمية ويحميها من التلاشي هو التقارب بين العامية والفصحى. ويرى أن اللغة العربية هي لغة عالمية لما تضمنته من أساليب ومفردات اتسعت لكل لغات العالم الأخرى. وبما تحمله اللغة العربية من مترادفات ومعاني ثرية وليست ضيقة مثل باقي اللغات.
ولعلنا نلفت الانتباه إلى عالمية اللغة العربية في فكر البستاني من خلال وجود علامة فارقة في تاريخ اللغة العربية كلغة عالمية؛ وهي ولادة أول قاموس عربي المسمى محيط المحيط، وترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة العربية، وولادة صحافة يومية باللغة العربية، وهذه الومضات الخالدة هي أحداث عالمية في تاريخ اللغة العربية، ولدت على يد المعلم بطرس البستاني. ويمثل ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة العربية بعدا عالميا آخر للغة العربية، حيث تم ربط المسيحية باللغة العربية، من خلال اشتراك البستاني في إنجاز ترجمة الكتاب المقدس من اللغة الأصلية إلى اللغة العربية، واشترك معه في ذلك الدكتور عالي سميث والشيخ نصيف اليازجي والدكتور كورنليوس فان دايك والشيخ يوسف الأزهري.
صفوة القول:
يعتبر البستاني علامة فارقة في تاريخ النهضة العربية الثقافية، بما حققه من إنجازات معرفية كان له السبق فيها مثل إنجاز موسوعة دائرة المعارف التي أنجز منها ستة أجزاء في حياته وخمسة بعد وفاته، أيضا إنجاز قاموس محيط المحيط، على نهج قاموس المحيط وسمي محيط المحيط؛ لأنه جمع ما ذهب إليه في كتب اللغة. كما كان البستاني بحق موسوعة علمية وثقافية متنقلة بما أضافه من معارف في جميع العلوم؛ لعل أبرزها اهتمامه باللغة العربية التي رأى فيها أنها لغة عالمية بما تضمنته من مرادفات وأساليب ثرية وجزلة لم تتوفر في اللغات الاخري، ومن خلال قدرتها على الترجمة عن جميع لغات العالم.