رؤى

تراثنا العربي بين سندان التهميش ومطرقة التقديس

مقدمة:

 يعد مفهوم التراث من المصطلحات التي أحدثت تباينا واختلافا في فهمه وتفسيره وتأويله ودراسته بين الأوساط الفكرية والفلسفية والثقافية العالمية والعربية. ومن هنا فإنَّ التراث في كل أمَّة يُعَدُّ من الضروريات لتقدم الأمَّة، وعدم الاهتمام به يُعَدُّ عُقْما يصيب مستقبل الأمم، فهو ذو أهمية كبيرة وعظيمة لأي أمة من الأمم؛ لأنه يمنحها الشخصية الاعتبارية، بوصفه الأصل لأي ثقافة أو مجتمع بشري، وقديما قالوا ما لا ماضي له لا حاضر له.

إذن لابد للإنسانية أن تهتم بتراثها وأن تحافظ عليه؛ لأنه هو عقلها ودمها الذي تحيا به بين الأمم، وجماع خصائصها الحضارية والنفسية، فالتراث منجز فكري تمثّل في الآثار المكتوبة الموروثة التي حفظها التاريخ كاملة أو مبتورة، كما أنه يمثل مادة بناء العقل وتكوينه، فهو جوهر الهوية ومجمع العناصر الوراثية المنسربة في نفوسنا وتقاليدنا جميعا، إنه أغلى الكنوز. وبناء على ذلك تعتبر الأمة العربية الإسلامية أغنى الأمم على الإطلاق بتراثها المعرفي إبداعا وجمعا ونقلا وتحقيقا، إلا أن هذا التراث العربي العظيم تتفاوت أحوال الناظرين إليه، فالبعض يرى أنه شيء مقدس يحرم المساس به، ولا يجب تغييره أو نقده أو حتى الاقتراب منه. والبعض الآخر يتحفظ عليه مطالبا بضرورة قطع الصلة به كلية، والانطلاق من معايير جديدة تُمَكِّنُ من إثبات الذات في حيز الوجود. كما يروا أن التراث عقبة في سبيل التقدم. وما بين هاتين النظرتين من تقديس التراث والاستهانة به هناك وجهة نظر ثالثة سوف نوضحها من خلال مقالنا.

أولا منطلقات أساسية 

الحضارة الإسلامية

من الواضح أن التراث العربي باعتباره ثقافة إسلامية لا يتعلق بحصيلة الإبداع في الفكر والآداب فحسب، وإنما يشمل حقول الصنائع والأعمال اليدوية وسائر المهن، وأيضا مظاهر الحياة الاجتماعية في أبعاده المختلفة. ومن الحقائق المؤكدة التي لا تقبل الشك أن التراث العربي قد شكَّل على الدوام ثروة لا مادية مؤهلة للإسهام في نهضة العرب والمسلمين.

ثانيا: المواقف المتباينة من التراث : لقد تعددت المواقف والنظريات في موقفها من التراث وانقسمت في هذا الشأن إلى ثلاث مواقف أو تيارات أساسية: التيار الأول– جاء موقفه من التراث متأثرا بالنظرة الغربية التي وضعته في ثنائية التراث والحداثة، وهي الثنائية التي تنتصر للحداثة على حساب التراث، وترى أن التراث يُمثّل عائقا وعقبة كئودا في سبيل التقدم والحداثة؛ لذا يجب التخلي عنه وتركه، وعدم الاكتراث به، لأنه يُمثّل الماضي في كل صوره وأشكاله، ولا يجب أن نسجن أنفسنا في الماضي، ولا نكون بمثابة “حانوتية” لهذا التراث، نحنطه ونستحضره في حل قضايا العصر الراهن؛ فالماضي لأهله الذين عاشوا فيه. فالتراث الفكري في عصر معين مثل العصر الأموي أو العباسي هو تراث خاص بهؤلاء الذين عاشوا فيه، لا يمكن استحضاره وتقمُّصه في حل مشكلات وقضايا معاصرة. لأن ما يصلح للسلف ليس بالضرورة يصلح للخلف. فالتراث بالنسبة لهؤلاء أشبه بثوب قديم بال لا يصلح للظهور به على مسرح الأحداث المعاصرة. ويجب أن نشير في هذا السياق إلى أن هذا التيار يختزل أزماتنا ومعضلاتنا في تراثنا وتاريخنا، ويصورهما كأنهما السبب الرئيس والوحيد لهذه الأزمات. وهذا ما يسمى ازدراء التراث والاستهانة به، وهو يُمثّل داءً وبيلا يطمس الطرق المؤدية إلى العلم والفهم. لذا يرى محمود شاكر أنّ ذَمَّ التراث والاستهانة به؛ كان أول صدع في تراث الأمة العربية والإسلامية، وأول دعوة لإسقاط تاريخ طويل، وظلت الاستهانة باقية الأثر في الناس إلى اليوم، حتى وصلت الأمور في بعض الأحيان إلى اغتياله ماديا ومعنويا. ومن جانبنا نقول: بلا شك هناك الكثير من الجوانب المتخلٍّفة والمظلمة في تراثنا؛ يجب التخلص منها والاستغناء عنها، ومع ذلك فهذا الموقف ينطوي على فهم قاصر وخاطئ، فليس التراث هو السبب الوحيد لكل أزماتنا ومشاكلنا؛ بل هناك أسباب عديدة ومتنوعة ومعقدة لأزماتنا، وهي في كل الأحوال أعمق من هذا.

محمود شاكر
محمود شاكر

التيار الثاني: موقف التقديس للتراث وهو ما يسمى الموقف التقليدي من التراث، والذي يدافع بكل قوة عن التراث ويراه النموذج الوحيد والنهائي لحياة المجتمع العربي الإسلامي؛ لذا يجب العودة إليه بكل تفاصيله وأشكاله. وهم ما يطلق عليهم “حانوتية” التراث، يريدون تحنيط ما هو قديم، وبث وبعث الحياة فيه، وجعله مشخصا يسير على قدميه لحل مشاكلنا المعاصرة. ومن هنا يقدس أنصار هذا التيار التراث بشكل مطلق ويحرمون المساس به أو انتقاده، وفي هذا المسعى تطمس أو تُزيَّف الكثير من الحيثيات والجوانب المظلمة من تراثنا العربي الإسلامي في محاولة لإعادة كتابتهما تفاديا للكشف عن الحقائق وتغطية جوانب الاستغلال والاضطهاد والقمع التي مارستها السلطات خلال حقب عديدة من التاريخ العربي. ويجب أن نلفت الانتباه أن هذا التقديس للتراث لا يتأتى بالضرورة من باب الفهم أو الدفاع عن التراث؛ بل على العكس فإن الكثيرين من أصحاب هذا الرأي يعادون التراث، وقلما يفهمون قيمته وأبعاده التاريخية. وتؤكد لنا التجارب التاريخية أنَّ هؤلاء يدَّعون تقديس التراث من أجل حماية مصالحهم وأيديولوجياتهم، ويعملون على تغييب الجوانب الإيجابية والثورية التقدمية منه، وكثيرا ما حاربوا من يعمل على إضاءة هذه الجوانب. خذ مثلا القرامطة وإخوان الصفا على سبيل المثال لا الحصر.

التيار الثالث:  يطلق عليه تيار الإصلاح، ويرى في التراث جهدا بشريا أنتجه رجال مثلنا؛ لذا يمكن التعديل فيه وتغييره والإضافة إليه، بل ونقده وتمحيصه؛ لذا أزالوا عنه القداسة و خلعوا عنه التقديس. وينطلق هذا التيار من رؤية معرفية منهجية قائمة على التفرقة بين التراث الذي هو إنتاج بشري وجهد مرتبط بظروف وأحوال معينة، وبين التراث كشيء مقدس لا نستطيع تغييره أو الإضافة إليه أو الانتقاص منه؛ ويحاولون الوقوف موقفا وسطيا ومعتدلا بين الرؤيتين السابقتين، محاولين ألا يقدسوا التراث وفي الوقت نفسه ألا يهملوه أو يتركوه بالكلية، بل الأخذ منه بما يتناسب مع ظروفنا وقضايانا المعاصرة. هذا التيار ينظر للتراث نظرة معتدلة موضوعية ليس فيها مغالاة أو تبسيط .

الحضارة الإسلامية

خلاصة القول  إن التراث يمثل ذاكرة أي أمة وهو القوة الدافعة لاستنهاض قدراتها، لذا يجب الاهتمام به. وأن نقف منه موقفا معتدلا وموضوعيا لا نبالغ في تقديسه والتمسك به وسجن أنفسنا في الماضي، وعدم الخروج منه، ولا نحاول أن نطبق مشكلات التراث على قضيانا المعاصرة ونستلهم الحلول من الماضي. وفي نفس الوقت لا نهمله ونتركه كليا ونستهين به، ونسخر منه. بل يجب أن نقف موقفا معتدلا متوسطا.. نأخذ من التراث ما يفيدنا في حل القضايا المعاصرة، وما يتفق مع عاداتنا وتقاليدنا وما يتسق وتوجهاتنا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock