كان صاعد بن أحمد بن عبد الرحمن بن صاعد التغلبي الأندلسي (420 ـ 462 هـ) في الأربعين من عمره حينما أنجز كتابه “طبقات الأمم” أو كما يسميه “التعريف بطبقات الأمم” إذ توفي بعد سنتين من عمر بلغ اثنين وأربعين عامًا، أنجز خلالها أربعة كتب.. تناولت ثلاثة منها موضوعات مختلفة: كعلم الرصد (حركات النجوم والكواكب) وعلم الملل والنحل (الديانات والمعتقدات والفرق الإسلامية وغير الإسلامية) وعلم التاريخ (جوامع أخبار العرب والعجم).
أما كتابه الأخير “طبقات الأمم” فقد وضعه للتعريف بأعلام عصره، حين عمل قاضيا لطليطلة في عهد أمراء الطوائف.
المناخ وطبائع البشر
والواقع أن صاعد الأندلسي، كان قد حاول من خلال كتابه هذا استكمال دراسة أستاذه ابن حزم في “مراتب العلوم” (الذي ركز فيه على التعريف بدور الأندلس في إنتاج العلوم، وكذا التعريف بأهم الشخصيات الفكرية التي برزت في مختلف العهود الإسلامية) رغم ذلك اختلفت الدراستان إذ لم يكتف صاعد بأخبار الكاتب، بل حاول التعرف على عصره وظروفه وبيئته.. ومدى تأثير كل ذلك وخصوصا البيئة، على أسلوبه وطريقته في التفكير.
بذلك كان صاعد أول مفكر عربي حاول تفسير طبائع البشر وفقًا لتغيرات المناخ؛ حتى إنه خلص إلى نتيجة مفادها “إن أثر المناخ يفعل عميقًا، ليس في طبائع البشر فحسب، بل أيضًا في أذهانهم” بمعنى “إن تأثيرات المناخ تتعدى مسائل المزاج الفردي أو الجماعي، لتطال أنماط تفكير البشر واستعدادهم الذهني”.
وبسبب شمولية الكتاب، وضع مقدمة تحليلية للتعريف بأخبار العلوم وتطور الأفكار واتصال الثقافات ببعضها، من المشرق إلى المغرب وانتهاءً بالأندلس وعصره. فجاءت دراسته تاريخية، حاول من خلالها الرد على مسألتين: الأولى مسألة التطور والثانية صلة حلقات التطور ببعضها.
إلا أن خطة الكتاب بهذا الشكل، فرضت على صاعد أن يقوم بمراجعة شاملة وسريعة لتاريخ الأفكار، ودور الأمم في صنعها وصلاتها ببعضها البعض. كذلك حاول قدر الإمكان التعريف بـ”الأمة” وأفكارها ثم التعريف بأعلامها حتى يربط حلقات التطور في مجراها الزمني.
نظرية تطور الأفكار
وبالتالي كان لابد له من أن يتجاوز حدود الأندلس والابتعاد عنها جغرافيًا، والغوص في عمق التاريخ إلى عهود سابقة على ظهور الديانات السماوية، وصولا إلى العرب وظهور الإسلام والفتوحات الكبرى. لذلك كان عليه أن يضع الإطار النظري لمشروعه، ويشرح خطة التطور، في سياق مرتبك أحيانا؛ إلا أنه ـربما دون أن يُدرك ذلك- ساهم في إنتاج نظرية تاريخية عن تطور الأفكار، سيكون لها تأثيرها على أجيال لاحقة.
يكفي أن نلاحظ أن الفيلسوف الألماني “هيغل” الذي تم اعتباره بمثابة الأب الشرعي للعديد من مدارس الفلسفة المعاصرة في أوروبا؛ كان قد تناول مسألة تطور الأفكار نفسها، من خلال كتابه الضخم عن “فلسفة التاريخ” بل لا يُمكن صرف النظر عن إمكانية استفادة الفيلسوف الألماني من كتاب صاعد ومن مقدمة ابن خلدون.. إلا أن “هيغل” لم يذكر في كتبه لا صاحب “المقدمة” ولا صاحب “طبقات الأمم” على رغم تأثره الواضح في جوانب كثيرة من أفكارهما.
انطلق صاعد الأندلسي في مؤلفه “طبقات الأمم” من فكرة قرآنية أولى عن وحدة الأصل البشري، وألحقها بفكرة قرآنية ثانية عن اختلاف البشر. وكما يقول صاعد فالناس جميعا “في مشارق الأرض ومغاربها وجنوبها وشمالها، وإن كانوا نوعا واحدا، فإنهم يتميزون بثلاثة أشياء: الأخلاق والصور واللغات”.
وهكذا.. كانت الوحدة هي البداية، ثم جاء الافتراق على انقسامات ثلاثة انحصرت في الفجر الزمني الأول، كما يقول “في سالف الدهور وقبل تشعب القبائل وافتراق اللغات” في سبع أمم “كل منها توحدت في الأشياء الثلاثة، واستوطنت مناطق محددة من الأرض، ثم عادت وانشطرت وتوزعت على أمم أخرى”. ثم يحدد صاعد لحظة الافتراق وتشعب الأمم واللغات، بأنها لحظة انتقال الأمم من عوالمها الجغرافية إلى عوالمها الزمنية.
المنهج الجغرافي التاريخي
وبانتقال الأمم من الجغرافي إلى التاريخي، بدأ الانقسام يتحدد على أساس وعي البشر ومستوى تطورهم ومدى مشاركتهم في العلوم ونسبة مساهمتهم في إنتاج المعرفة. وقد أدى ذلك إلى فرز الأمم إلى طبقتين: إحداهما، طبقة “عنيت بالعلم فظهرت منها ضروب العلم وصدرت عنها فنون المعارف”.. والأخرى طبقة “لم تعن بالعلم عناية تستحق منها اسمه وتعد بها من أهله”.
وهكذا يضع قاضي طليطلة مختلف الأمم في الطبقة الأولى على سوية واحدة، لكنه يميز بينها على مستوى ما قدمته من معارف ساعدت على تقدم الإنسان ورقيه. فهو يعطي فكرة سريعة عن الأمة، ثم فكرة سريعة عن علمها، ثم أخيرا يفصل بينها حين يتم التعريف بطبقات أعلامها، واتصال طبقات العلوم ببعضها البعض.
ولعل أهم ما يمكن ملاحظته في هذا الشأن، أن صاعدا كان قد اعتمد في عرض فكرته على منهجية جغرافية أفقية، تبدأ من الشرق إلى الغرب؛ لكنه قام بتكييفها زمنيا حينما ربط منهجيا بين الجغرافيا والتاريخ، مُرتبًا الأمم وفق تتابع عمودي (أمة بعد أخرى)؛ بما يُشير إلى ابتكار صاعد للمنهج الجغرافي/التاريخي في قراءة مصادر الفكر والتطور الزمني من أمة إلى أخرى، ووفق تتابع تطوري (طبقة بعد أخرى).
فالمجرى الزمني للتطور يسير لديه وفق تسلسل جهوي؛ وضمن خطة للتقدم. فقد تأثرت الأمم ببعضها وتعلمت من بعضها عن طريق الاحتكاك المباشر، أو عن طريق الترجمة. ومن مجموع هذه الأمم حصل التلاقح واتصلت العلوم وتراتبت وصولا إلى عصره.
الملاحظة الأهم هنا، أن صاعدا الأندلسي يربط حلقات الفكر وكذا اتصالها؛ فهو يتحدث عن هرمس البابلي وتأثيره على بطليموس، ثم يعود للحديث عن هذا الأخير وتأثيره على علماء المسلمين؛ وقد فعل “هيغل” الأمر نفسه، حين تحدث عن هرمس المصري، وتأثيره على فيثاغورث (الذي تبنى فكرة تناسخ الأرواح ونقلها عن هرمس).
وإضافة إلى أن التطور عند “هيجل” هو -هوـ الاتصال عند صاعد، فإن مخطط قاضي طليطلة في المعنى الجغرافي/ السياسي تاريخيا، يحظى بالمقومات نفسها التي بني عليها “هيغل” تصوره. فالأول تحدث عن الفرس وبابل كأمتين مستقلتين ثم كدولة واحدة، والثاني فعل الأمر نفسه. كذلك تحدث الأول عن اليونان والرومان كأمتين ثم كعالم واحد، وكرر “هيغل” الأمر نفسه.
في هذا السياق، فإن الأمر الواجب التأكيد عليه، أننا لا نملك أدلة ثابتة تقطع بتوجيه تهمة اعتماد “هيغل” لمخطط “صاعد” عن تطور الأفكار واتصالها من الشرق إلى الغرب؛ ولكن يكفينا هنا التأكيد على اتهام “هيغل” لعلماء المسلمين، من دون أن يسمي أحدهم، أنهم خلطوا بين الروم والرومان وبين روما وبيزنطة وهذا ـبالضبطـ ما وقع فيه صاعد عندما وضع الروم والرومان، وروما وبيزنطة في دائرة واحدة وذكرهم في سياق مفهوم واحد.
“فهل يقصد هيجل بالمسلمين صاعد الأندلسي من دون أن يشير إلى اسمه؟!”.