رؤى

الفارق بين البشر والإنسان.. في التنزيل الحكيم

بالرغم من أن كلمة الإنسان ولفظ البشر يدلان على كائن واحد، من حيث المفهوم العام عند الكثيرين؛ إلا أن استخدامهما في آيات التنزيل الحكيم جاء بطريقة مختلفة، بما يعني أن هناك الكثير من الفروقات بينهما، من حيث الدلالة. ولعل هذا ما ساهم في الاختلاف الحاصل عند كثير ممن تناول الفارق بين المصطلحين ودلالة كل منهما في القرآن الكريم.

فهناك من يقول بأن لفظة “البشر” تأتي في التنزيل الحكيم لكي تدل على المدح؛ حيث إن الكلمة جاءت لتُظهر وصف النبي عليه الصلاة والسلام إذ يقول سبحانه وتعالى: “هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ” [الأنبياء: 2]. أيضًا، تأتي الكلمة في الأشياء التي لها علاقة بالخلق والشكل، إذ يقول سبحانه: “وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا” [الفرقان: 54].

وهناك كذلك من يؤكد أن استخدام لفظ “البشر” في التنزيل الحكيم، يأتي في سياق التأكيد على “مبدأ المساواة” إذ يقول تعالى: “قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا” [الكهف: 110] ويقول سبحانه: “فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ” [القمر: 24].

ويبدو الاختلاف الحاصل، عندما يُشير البعض إلى أن ورود كلمة الإنسان في التنزيل الحكيم، جاءت في معظم الأحيان مصحوبة بالذم؛ حيث يقول سبحانه وتعالى: “وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ” [إبراهيم: 34]؛ ويقول تعالى: “إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا” [الأحزاب: 72].

فما الفارق إذن بين الإنسان والبشر في التنزيل الحكيم، بعيدًا عن مسألتي المدح والذم.. من حيث دلالة كل لفظ منهما؟

دلالة الإنسان

من جهة الإنسان، فالأصل فيه من “أنسن” وتعني في اللسان العربي ظهور الشيء، وكل شيء خالف طريقة التوحش؛ ومنه الإنس، أي أنس الإنسان بالشيء إذا لم يستوحش منه. هذا عن المفرد. أما صيغة الجمع “الناس”، فقد جاءت من نوس وهو في اللسان العربي أصل يدل على اضطراب وتذبذب، وناس الشيء تذبذب؛ وهو ما يشير إلى الانتقال من مكان إلى آخر ومن حالة إلى أخرى، حيث يُقال نُسْت الإبل سُقْتُها؛ وهو ما يشير إلى أن الإنسان هو البشر غير المتوحش، وأنه عندما اجتمع مع غيره من الناس في مجتمع، فقد تولّد الاضطراب والتذبذب في مناحي الحياة المختلفة، أي تولّدت التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

وفي آيات الذكر الحكيم، وردت صيغة المفرد “الإنسان” خمسا وستين مرة، في حين ورد لفظ “إنسيًا” مرة واحدة، في قوله سبحانه وتعالى: “فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا” [مريم: 26]. أما صيغة الجمع “الناس” فقد وردت مئتين وأربعين مرة، وهو ما يدل على مدى اتساع الدورة الدلالية للفظ في القرآن الكريم. أما مفردة “الإنس”، الدالة على جنس الإنسان فقد وردت ثمان عشرة مرة، في حين وردت صيغة “أناس”، الدالة على جماعة من الناس، خمس مرات، ومنها قوله سبحانه: “يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا” [الإسراء: 71]. ثم، تأتي لفظة “أناسي” التي لم ترد سوى مرة واحدة، في قوله تعالى: “وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ٭ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا” [الفرقان: 48-49].

وعبر تأمل هذه المفردات في سياق ورودها ضمن أيات الذكر الحكيم، يمكن ملاحظة أنها جاءت كصيغ للكائن العاقل. إذ دائمًا ما يوجه الخطاب القرآني من خلال صيغة “يَاأَيُّهَا الْإِنسَانُ”، كما في قوله سبحانه وتعالى: “يَأَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ” [الانفطار: 6] وكذا عبر صيغة “يَأَيُّهَا النَّاسُ”، كما في قوله سبحانه: “يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” [البقرة: 21]، وكما في قوله تعالى: “يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا” [النساء: 174].. ولم تأت أبدًا صيغة “يأيها البشر”.

معنى البشر

أما من جهة البشر، فإن اللفظ يدل في اللسان العربي على ظهور الشيء مع حُسن وجمال، والبشرة هي ظاهر جلد الإنسان، وسُمي البشر بشرًا لظهورهم. وقد ورد مصطلح البشر في القرآن الكريم عددًا من المرات، وصل إلى سبع وثلاثين مرة، ليؤشر إلى “الوجود المادي لكائن حي له صفة الحياة”. وهو ما يتبدى بوضوح في قوله سبحانه: “قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ” [آل عمران: 47]؛ وفي قوله تعالى: “فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا” [مريم: 17]. وهنا، لنا أن نلاحظ أن مريم “الصديقة” قد رأت “روح الله” في صورة بشر بحت (كائن حي من جنس البشر)، وليس في صورة مَلَك أو جن، ولذلك قال: “سَوِيًّا”. وفي قوله سبحانه وتعالى: “مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ” [المؤمنون: 33]، يبدو التأكيد على أن الطعام والشراب هما من صفات البشر، وأن الرُسُل الذين أرسلهم الله كانوا من البشر، يأكلون ويشربون كما تأكل بقية الناس وتشرب.

أما في قوله تعالى: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ” [الروم: 20]، لنا أن نلاحظ أن الانتشار في الأرض كان قد حصل في مرحلة البشر، قبل مرحلة “الاصطفاء الإلهي” لآدم، وقبل “نفخة الروح”، أي قبل مرحلة “الأنسنة”. ثم لنا أيضا أن نتأمل كيف وردت الأداتان “ثُمَّ إِذَا”، بين “خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ” و”أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ”، للدلالة على الفترة الزمنية بين المرحلتين، مرحلة الخلق ومرحلة الانتشار؛ حيث “ثم” تدل على التعاقب مع التراخي، في حين أن “إذا” هي ظرف لما يستقبل من الزمن، وورودهما معًا إنما يؤشر إلى طول الفترة الزمنية بين الخلق والانتشار.

هذا عن معنى البشر، ودلالة الإنسان.. فماذا إذن عن التمييز القرآني بين كل من اللفظين، اصطلاحا في آيات الذكر الحكيم؟

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock