أصوات:
يمثل هذا النوع من المقالات نموذجا واضحا، علي قدرة أدوات التحليل السياسي علي التغطية أو بالأصح التعمية علي الأهداف الحقيقية، لبعض التحركات والمصالح السياسية؛ عن طريق اختلاق إطار أخلاقي لها. فخلافا لما استقرت عليه معظم الدراسات من أن صناعة الدفاع الامريكية، وما يعرف بالمجمع الصناعي العسكري النافذ؛ سيكونان المستفيد والرابح المادي والمالي المباشر من حرب أوكرانيا، وحملة إثارة الرعب من روسيا وبوتين؛ لدي دول الناتو وحلفاء أمريكا عموما، وما قاد إليه ذلك من تخصيص هذه الدول لمئات المليارات من الدولارات من موازناتها؛ للتسليح المعتمد بالأساس على المعدات العسكرية الأمريكية – فإن هذا المثال يزعم أن الولايات المتحدة تواجه صعوبات في حمايتها للديمقراطية في العالم، وفي تزويد الدول الديمقراطية بالأسلحة؛ ولو علي حساب مخزونها الاستراتيجي.
وإذا كانت المقالة قد استخدمت جملة لرئيس أمريكي هو “فرانكلين روزفلت” لتسويق ترسانة الأسلحة من أجل الديمقراطية؛ فإن ما يرد عليه ويلقمه حجرا، هو رئيس أمريكي آخر أكثر مصداقية؛ لأنه كان جنرالا ورئيسا أعلى لقوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، هو “دوايت أيزنهاور” الذي حذّر في خطبة الوداع يناير ١٩٦٠، من (النفوذ الذى لا مبرر له للمجمع العسكري الصناعي علي القرارات السياسية الأمريكية).
عندما تم قصف لندن خلال إحدى الغارات، قام “فرانكلين روزفلت” بإلقاء كلمة على الراديو في التاسع والعشرين من ديسمبر عام 1940، والتي لا تزال لها صدى واسع حتى اليوم، حيث قال الرئيس إن على أمريكا أن تصبح “ترسانة كبيرة للديمقراطية”، وذلك من أجل مساعدة أولئك الذين يقاتلون النازيين ولحماية نفسها.
وعندما هاجمت اليابان “بيرل هاربور” بعد عام، دخلت المصانع الأمريكية في حالة الإنتاج الكامل في زمن الحرب، وتحملت صناعة السيارات في “ديترويت” الكثير من العبء؛ حيث صنعت “أولدزموبيل” قذائف المدفع، وأنتجت “كاديلاك” الدبابات ومدافع الهاوتزر، وصنعت “كرايسلر” رشاشات براوننج. وقامت شركة “فورد” ببناء مصنع ضخم لطرح قاذفات القنابل B24 بمعدل واحدة كل ساعة.. وربما يكون أحد عمالها قد ألهم أغنية وملصق “Rosie the Riveter”والذي أصبح الآن أيقونة إبداعية.
ويصور الرئيس “جو بايدن” نفسه على أنه “روزفلت” حيث لن تنجح أمريكا بشكل مباشر؛ ولكنها مصممة على مساعدة أوكرانيا على “الفوز”. ففي الثامن والعشرين من أبريل المنقضي، طلب “بايدن” من الكونجرس مبلغ ثلاثة وثلاثين مليار دولار، للاستجابة للأزمة.. علاوة على 13.6 مليار دولار، تمت الموافقة عليها في وقت سابق من هذا العام.. ويشمل الطلب الجديد حوالي عشرين مليار دولار من المساعدات العسكرية لأوكرانيا والحلفاء الأوروبيين.. وقال بايدن أن هذه التكلفة ليست رخيصة، ولكن العدوان سيكون أكثر كلفة إذا سمحنا بحدوثه.
فهل تستطيع صناعة السلاح في أمريكا الرد؟ حيث أنها لا يجب أن تساعد أوكرانيا فحسب، بل يجب أيضا أن تُساعد الحلفاء الأوروبيين الذين يسارعون إلى إعادة التسلح، وحتى أمريكا نفسها يجب أن تعيد تكديس مخزونها..
ويقول “توماس ماهنكن” من مركز التقييمات الاستراتيجية والمتعلقة بالميزانية، وهو مركز أبحاث في واشنطن: “لقد نجحنا في إمداد أوكرانيا بكميات كبيرة من الذخائر”. لكن سؤالي هو: “من الذي سيزود الولايات المتحدة؟ لا أحد.”
كانت أمريكا منذ عام 2018، أكبر صانع دروع لأوكرانيا؛ إذ باعت أو نفذت (7000) جهاز مضاد للدبابات من “جافلين” كما أرسلت (14000) أنظمة دروع أخرى، و(1400) صاروخ “ستينجر” مضاد للطائرات، و(700) سويتش بليد موني وتسعين مدفع هاوتزر مع (183000) قذيفة 155 ملم، وسبع عشرة طائرة هليكوبتر مي 16، ومئتي ناقلة جند مدرعة. وقد حشدت حلفاءها لتقديم معدات عسكرية، غالبا ما تكون من الطراز السوفياتي السابق.
ومعظم هذه الأسلحة جاءت من المخزونات. وقد لا تتمكن المصانع من زيادة الإنتاج بسرعة. لا تنشر أمريكا تفاصيل مخزونها من الأسلحة؛ لكن خذ على سبيل المثال صاروخ “جافلين” الذي اقتنى الجيش منه حوالي (34500) صاروخا؛ منذ دخوله الخدمة في عام 1996، وفقًا لوثائق الميزانية.
ويعتقد “مارك كانسيان” من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وهو مركز أبحاث آخر، أنه استخدم من (12500 – 17500) صاروخا للتدريب وفي الاختبارات. ومن شأن ذلك أن يترك من (17.000- 22.000) صاروخا مخزونا حتى نهاية عام 2021، لذا فإن الـسبعة آلاف صاروخ “جافلين” الممنوحة لأوكرانيا، قد تمثل ثلث مخزون الجيش أو أكثر، باستثناء ما حسابه حوالي (2400) صاروخ اشترتها قوات المارينز وربما (5000) في العراق وأفغانستان.
في الثالث من مايو، زار “بايدن” المصنع في “تروي” بولاية ألاباما، حيث تجميع الصاروخ “جافلين” وتعني الرمح والذي ينتج منه (2100) صاروخ في السنة. وبالتالي سوف يستغرق الأمر ثلاث أو أربع سنوات لتجديد مخزون الجيش، ومدة أكثر من ذلك إذا كان لدول أخرى أولوية؛ حيث أنه يمكن للمصنع نظريا إنتاج (6480) صاروخ في السنة. ولكن هذا بافتراض أن صانعيها، في المشروع المشترك بين شركة “لوكهيد مارتن” و”رايثيون تكنولوجي”، يتلقون طلبات مؤكدة، ويمكنهم العثور على عمال إضافيين، مع توفر المكونات بشكل حاسم، وفي مكالمات الأرباح مع المستثمرين الشهر الماضي تحدث رئيسا الشركتين عن قيود سلسلة التوريد.
ولا يزال إنتاج صواريخ “ستينجر” المضادة للطائرات أكثر إحكاما؛ حيث أنهم دخلوا الخدمة في عام 1981، واشترت أمريكا آخر دفعة في عام 2003، وأغلق خط الإنتاج العام الماضي، ثم أعيد فتحه أمام عميل أجنبي (يُعتقد أنه تايوان). وتقول الشركة المصنعة “ريثيون”، إن لديها مخزونا محدودا فقط من الأجزاء. وقال رئيس شركة “جريجوري هايز” للمستثمرين: “بعض المكونات لم تعد متوفرة تجاريًا… ولذا علينا أن نخرج ونعيد تصميم بعض الإلكترونيات لرأس الصواريخ، وسيستغرق ذلك بعض الوقت”.
وقد تمثل الخطوة الأخيرة، بإرسال مدفعية قياسية لحلف الناتو إلى أوكرانيا، نوعا من تخفيف الضغط على مخزونات الذخيرة (فالدولة لديها الكثير من قذائف 155 ملم). ولكنها ستظهر نقاط ضعف أخرى للدول الغربية. فبعد أن هيمنت لفترة طويلة على المجال الجوي لمناطق الحرب، لم تستثمر الدول الغربية في أسلحة (أرض-جو) طويلة المدى من النوع الذي تتوق إليه أوكرانيا.
وهذه ليست المرة الأولى التي يجدون فيها أنفسهم يفتقرون إلى الأسلحة؛ حيث حدث ذلك في الحرب الجوية في ليبيا عام 2011 -وهي حملة محدودة- وسرعان ما افتقرت بريطانيا وفرنسا إلى الذخائر الموجهة بدقة آنذاك. وكانت أمريكا نفسها، في بعض النقاط خلال الحملة ضد جهاديي تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا في الفترة من 2014-2018، تستهلك أكثر مما يمكن إنتاجه.
فالأسلحة الدقيقة المليئة بالرقائق وأجهزة الاستشعار صعبة الصنع ومكلفة، ويميل المخططون إلى التركيز على “المنصات” – الدبابات والسفن والطائرات- وتوفير مال القنابل والصواريخ، ويشير “برادلي مارتن” من مؤسسة “راند”* إلى أنه من المفترض وجود خطر بسبب الاعتقاد بأنه إذا حدثت حرب، فسنكون قادرين على زيادة الإنتاج، وهذا افتراض خاطئ.
والمشكلة ذات الصلة هي الميل إلى التقليل من مدى كثافة استخدام الجيوش للذخائر في الحرب، وأمر أخر هو أنه بعد عقود من الشراء في أوقات السلم، أعطت الصناعة الأولوية للكفاءة وليس المرونة. فالحفاظ على الطاقة الفائضة مكلف.
ولا شك أن صناعة الدفاع مثل غيرها، قد تعرضت لتأثيرات وباء “كوفيد” وأسواق العمل المحدودة، والنقص العالمي في رقائق الكمبيوتر.. ويجادل تقرير حديث صادر عن الرابطة الصناعية للدفاع الوطني، بأن القاعدة الصناعية الدفاعية الأمريكية آخذة في التدهور.. وكانت أكبر المشاكل نقص العمالة الماهرة وقطع الغيار، وقد ذكر التقرير أن حوالي 30٪ من الشركات هي المورّد الوحيد لمنتجها إلى البنتاغون.
تقول “كاثلين هيكس” نائبة وزير الدفاع: “إن البنتاغون يحاول إزالة الاختناقات في الاجتماعات الأسبوعية مع رؤساء شركات الدفاع.. إنها تساعدهم في تحديد مواقع موردين بديلين للأجزاء التي يصعب العثور عليها أو في حالة “ستينجر” الأدوات اللازمة لصنعها. وعلى المدى الطويل، تحاول الحكومة تعزيز الإنتاج المحلي”.
وتحذر السيدة “هيكس” من التركيز على أسلحة معينة: “نتحدث باسم العلامات التجارية، الناس يتجولون في الشارع ويتحدثون عن “جافلين” لكن الحقيقة هي أننا نقدم أنظمتنا المضادة للدبابات، وما تحتاجه أوكرانيا ليس سلاحا محددا؛ بل قدرة.. مثل إيقاف المركبات المدرعة. من الممكن توفير ذلك عن طريق الأسلحة أو حلفاء آخرين (بريطانيا والسويد –على سبيل المثال– اللتان أرسلتا الجيل التالي من الأسلحة الخفيفة المضادة للدبابات). وأمريكا، كما تقول، قادرة على سحب مخزونات “جافلين” و”ستينجر” لأن لديها وسائل أخرى لتدمير الدبابات والطائرات”.
وتكثر الأفكار لتحسين الإنتاج الدفاعي؛ عن طريق المخزونات الأكبر، وتنويع الموردين، وتصميمات أسلحة معيارية تسمح بتبادل المكونات. لكن الكثير من هذا صعب، فبالنظر إلى أن المشتريات بطيئة وتميل الصناعات الوطنية إلى الحماية. تقول السيدة “هيكس”: “إن البنتاغون يجب أن يعطي الصناعة “إشارة سوق قوية ودائمة”، وتأكيد أنه إذا قاموا بتوظيف العمال وتوسيع المصانع، فإن “العمل سيكون هناك”.
فبالنسبة لأمريكا، لا تزال الحرب في أوكرانيا التزاما محدودا؛ ولكن إذا كانت صناعتها تتعرض لضغوط الآن، فهل يمكنها التعامل مع حرب كبيرة، لِنَقُل ضد الصين بسبب تايوان؟ يقول مارتن: “في الحرب العالمية الثانية، كان أحد أسباب قدرة الصناعة على إجراء التحول سريعا؛ هو أن لدينا قدرا هائلا من القدرة الصناعية غير المستخدمة بعد الكساد، لكن ترسانة الديمقراطية في الوقت الحالي ليست قادرة على الاستجابة لمطلب صراع طويل الأمد وشديد الحدة”.
* مؤسسة فكرية تدعمها القوات الجوية الأمريكية