يُعد كتاب “الاعتبار” أحد أهم المصادر للباحثين في تاريخ الفترة المعروفة، باسم الحروب الصليبية والتي دامت نحو قرنين كاملين من الزمن.
وصاحب هذا الكتاب هو الأمير أسامة بن مرشد من بني منقذ، وهو أحد أمراء حصن شيزر في سورية والذي جمع بين الفروسية والأدب والشعر، وعاصر الحروب المتتالية بين الأوروبيين الغزاة الذين سماهم الفرنجة وبني قومه من المسلمين.
إلا أن العلاقة بين الطرفين لم تكن دوما علاقة قتال وقتل؛ بل تخللتها علاقات ودية في أوقات الهدنة بين الجانبين، والتي أتاحت لأسامة بن منقذ زيارة الإمارات الصليبية المختلفة والتجول في أرجائها، وسجل بعين بصيرة عادات هؤلاء القادمين عبر المتوسط.
ويمكن لقارئ الكتاب أن يدرك، أنه كانت ثمة رغبة عند طرفي الصراع، في معرفة ما لدى الآخر، وهو ما يتبدى جليا في قصة يرويها بن منقذ.
وملخص القصة أن حاكم إمارة صليبية في لبنان، أصيب بمرض ما؛ فأرسل عم أسامة بناء على طلب هذا الحاكم، طبيبا عربيا مسيحيا إليه لعلاجه.
ومن اللافت أن الطبيب العربي عاد سريعا إلى قومه؛ فداعبه هؤلاء وقالوا: “ما أسرع ما داويت المرضى” إلا أن الطبيب أوضح لهم أن الأمر أكثر تعقيدا من ذلك.
حيث أنه ولدى وصوله الى تلك الامارة الصليبية؛ عُرض عليه مريضين: رجل وسيدة.. وأضاف أن الرجل “طلعت في رجله دملة، وامرأة قد لحقها نشاف. فعلمت للفارس لبيخة ففتحت الدملة وصلحت. وحميت المرأة ورطبت مزاجها”.
إلا ان هذا العلاج فيما يبدو لم يثر إعجاب طبيب فرنجي كان يرقب المشهد فقال: هذا ما يعرف شيء يداويهم!
ثم توجه الطبيب الفرنجي إلى الرجل فبتر ساقه، إلا أنه لم يبترها بشكل سليم مما تسبب في وفاة الرجل ثم عمد إلى السيدة وقال: هذه امرأة من رأسها شيطان قد عشقها، احلقوا شعرها. فحلقوه.
ثم أضاف: الشيطان قد دخل في رأسها؛ فأخذ الموسى وشق رأسها على شكل الصليب، ثم نثر الملح عليه٫ فماتت السيدة أيضا بسبب علاجه هذا.
ولم يملك الطبيب العربي الذي وقف يشاهد مندهشا هذا “العلاج” المزعوم سوى أن يسأل الفرنجة: بقي لكم إليَّ حاجة؟! فقالوا: لا. فعاد إلى قومه وقال: قد تعلمت من طبعهم ما لم أكن أعرفه!
أغلب ظني أن هذا الطبيب العربي لو قُدر له أن يعيش حتى يومنا هذا لأصابته الدهشة من انقلاب الأوضاع وتغير المواقف؛ حيث يبدو كل طرف من طرفي تلك القصة وكأنه قد استبدل موضعه بموضع الآخر وبات يقلده.
فالفرنجة الذين سخر منهم الطبيب العربي، ومن طرق علاجهم التي لا تداوي مرضا؛ بل تزيد الطين بلة وتتسبب في وفاة المريض، قد نهلوا من علم هذا العربي وقومه، ورغم خروجهم مهزومين من عكا آخر معاقلهم في الشام عام ١٢٩١، إلا أنهم خرجوا ومعهم معارف عدوهم.
وما لبثوا أن نفضوا عن أنفسهم وعقولهم أوهام ذلك الطبيب الفرنجي، واعتنقوا عقلانية وعملية الطبيب العربي؛ فاتحين لأنفسهم بذلك الأبواب على مصراعيها لما عُرف بعصر النهضة.
أما قوم الطبيب العربي فقد باتوا –ويا للسخرية– أشبه بنسخة من ذلك الطبيب الافرنجي، حيث باتت الخرافة والأطروحات الغيبية مقدمة لدى نفر غير قليل منهم على العلمية، وبات بعضهم يلجأ إلى العراف والساحر والمنجم إذا واجهته أزمة ما بأكثر مما يلجأ إلى الطبيب والعالم المتخصص.
ولعلي لا أبالغ إن قلت إن استرداد الانتصارات التي حققها الناصر صلاح الدين والظاهر بيبرس وغيرهم من القادة الذين أنهوا الوجود الصليبي في الشرق، مرتبط ارتباطا وثيقاً باسترداد نهج ذلك الطبيب العربي، نهج العلم الذي لا نهضة بدونه ولا انتصار من غيره.