بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عُمان
نامت زهرة القدس وأراحت رأسها المتعب على أقرب حائط في باب العامود ولم تمت، فالشهداء لا يموتون “وإنما يذهبون إلى النوم وهنا سيفي شاعر فلسطين الكبير محمود درويش بوعده فيصحو ويحرس شيرين والشهداء من هواة الرثاء!!”.
وكأنها اختارت “يوم الهول يوم وداع” كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي، كأنها اختارت يوم نكبة شعبها 14 مايو 1948 ليكون يوم جنازتها 14 مايو 2022 فوحدت مرة أخرى بينها وبين قضية عمرها وعمرنا وربطت اسمها في ذاكرة أمتها باسم فلسطين والأقصى وكنيسة القيامة وتصميم شعبها المتجدد في كل ذكرى للنكبة على عدم التفريط في أرضه وحقه التاريخي وعدم الاستسلام لآخر نظام باق في عصرنا من نظم الاستعمار الاستيطاني العنصري للشعوب بعد أن تخلص العالم وأفريقيا من نماذجه الكريهة في جنوب أفريقيا.
وهل تموت من صنعت بموتها تاريخا جديدا لشعبها وقضيتها وقدسها العتيقة، لمهنتها، ونسويتها، وإنسانيتها. ومنذ متى تموت الرموز؟ وهل مات مانديلا عندما وافاه الأجل أم ازداد حياة في الضمائر وحضورا في الغياب.
وأشهد الله كزميل لشيرين عملنا لسنوات طويلة في مؤسسة إعلامية واحدة وتشاركنا في مهمات وتغطيات إعلامية مختلفة، أنها ما فرّطت في استقلالها المهني لسلطة احتلال أو سلطة وطنية. وكانت تمارس هذا الاستقلال بأريحية كبيرة ودون تشدق بالمواقف والمبادئ، كانت تمارسه باعتباره الشيء الطبيعي وبدون مجهود مثله مثل شرب الماء.
تماما كما كانت تفعل في تغطيتها المهنية للأحداث فلم تضبط تلك التي عاشت ربع قرن أو يزيد بين خطوط التماس وتحت قصف قنابل وطائرات العدو متلبسة أبدا بفقدان رباطة جأشها أو منفعلة تصرخ من الغضب أو من الحزن بحيث تفقد موضوعية نقلها أو تغطيتها للحدث تقريرا أو تعليقا. لم تفقد شيرين أبدا ولا للحظة واحدة المسافة بين الصحفي المهني والناشط السياسي رغم أن قمع وقهر دولة الفصل العنصري ومجازرها تخرج العاقل من اتزانه.
ولم تقع أيضا فيما وقع فيه زملاء لها عند تغطية حدث ملتهب عندما عبروا الخط الفاصل بين المراسل والمناضل. فصاحبة هذا الصوت الهادئ المغلف بكل شجن “أفضل وأعدل قضية على الأرض” كانت تعرف أن العدو المتربص بالصحافة الحرة التي تفضح جرائمه يترصد لكل كلمة وكل صورة تنقلها شيرين وزملاؤها من الصحفيين الفلسطينيين المرابطين على الخط الأمامي لكي يمنعهم بقوانينه الجائرة ويحاول أخذهم إلى محاكمه العنصرية أو يسحب منهم تراخيص العمل الصحفية خاصة بعد أن فشل في منعهم بكل وسائل القمع في أثنائها وأثنائهم عن الحضور المادي في قلب الحدث والتغطية الميدانية وفضح جرائمه للعالم بأكمله.
كانت شيرين تقول “أنا إنسان أخاف وأقلق ولكن حين يكون هناك حدث ما أشعر أن عليّ التواجد في الميدان لا في المكتب”.
انتهاكات إسرائيل للصحفيين لم تكن محدودة لا في العدد ولا في حجم التوحش ففي عام 2019 فقط بلغ عدد الانتهاكات الإسرائيلية للصحفيين الفلسطينيين 811 انتهاكا لم تحاسب على واحد منها بسبب الحماية الأمريكية ومحنة المعايير المزدوجة. ولم تقم الأمم المتحدة بحماية قرارها الدولي 2222 الذي يلزم الحكومات بحماية الصحفيين والعاملين في وسائط الإعلام الذي يغطون النزاعات المسلحة رغم أن هذه الانتهاكات ضد الصحفيين شملت القتل وفقء العيون وبتر الساق والاعتقال واستهدافهم بالرصاص المطاطي والحي وقنابل الغاز المسيل للدموع وكسر الكاميرات والاعتقال والمحاصرة في البيوت.. إلخ.
ولهذا تعترف صحيفة هاآرتس الإسرائيلية أخيرا “بأن شيرين باغتيالها صارت “رمزا” لوحشية الاحتلال الإسرائيلي وانتهاكه المستمر لحرية الصحافة إذ لا يكاد يوجد صحفي بالقدس الشرقية لم يتعرّض لإصابة برصاص أو ضربة بهراوة أو قنبلة صوتية إسرائيلية” وكما تقول الصحيفة “إن كل هذه الاعتداءات تمت بلا سبب وكل التحقيقات فيها انتهت دون توجيه أي اتهام لجنود جيش وشرطة الاحتلال”.
رمزية شيرين تحققت عربيا وإنسانيا ليس فقط بمئات الوقفات الاحتجاجية في أركان العالم ولا بعشرات الجنازات الرمزية ومئات صلوات الغائب ولا بالجداريات التي امتدت من قلب الدانمارك إلى ساحل غزة وإنما في مشاهد ولحظات نادرة لن تضيع من ذاكرة التاريخ ولن تختفي بمرور الزمن.
1- وحّدت شيرين على الأقل لمدة أيام أمة عربية كانت قد تمزقت شيعا وتحالف بعض أبنائها مع أعدائها وأعداء فلسطين وأصبح بأسهم بينهم أشد من بأسهم على غيرهم. توحّدت الأمة كما لم تتوحد ربما منذ حرب أكتوبر 1973.
توحّدت في غضبها وحزنها على الشهيدة التي ملأت الفضاء العربي صدقا وملأت قلوب العرب حبا في خمس وعشرين عاما من الحضور البهي دخل فيها إلى كل بيت عربي صوتها الرخيم الهادئ المغلف بحزن وعذابات شعب لم يتعرّض شعب آخر لما تعرّض له من قتل وتشريد. وفشلت المحاولة الخبيثة من الجناة الإسرائيليين في تحريض الفضاء الافتراضي على صرف النظر وتحويل الانتباه عن جريمته بإشغال البعض بالحديث عن توصيف الشهيد وتحديد نطاق الرحمة لمَن وسعت رحمته كل شيء، خاصة بعد أن تمادى في إجرامه فلم يكتف بقتل شيرين وإنما اعتدى على نعشها وعلى مشيعيها إلى مثواها الأخير. اختفت القُطرية والمذهبية والطائفية وعادت الحالة الشعورية الموحدة للأمة في لحظة نادرة لا يمكن حتى لأي كاره أن ينكرها.
وقرعت أجراس كنائس كل الطوائف المسيحية في العالم العربي وليس فقط الكنيسة الكاثوليكية وذابت خلافاتها العقدية أمام وردة القدس البيضاء، وصاحبت هذه الأجراس والترانيم المساجد ولكن تكبيرا وصلوات غائب فصارت شيرين رمزا للعروبة العابرة لكل الموزاييك الطائفي والمذهبي والعرقي وحتى الأيديولوجي.
2- وحدت شيرين شعبا فلسطينيا قسّمته فتنة رام الله وغزة والسلطة وحماس منذ أكثر من عقد ونصف العقد، فكانت حماس وفتح والجهاد والشعبية وباقي الفصائل معا في الموقف من تحميل العدو مسؤولية قتل ابنة الشعب الفلسطيني كله والإصرار على رفض أن يقوم القاتل بالتحقيق في جريمته التي اقترفتها يداه والتعهد بالثأر لدمها الزكي وعدم السماح له بالإفلات من العقاب. فصارت رمزا فلسطينيا جامعا يضم معه رموزا سابقة من كل الفصائل من عرفات ويحيى عياش إلى فتحي الشقاقي وأبو علي مصطفى..إلخ.
٣- وإذا كانت أزمة حي الشيخ جراح ومعركة سيف القدس في الشهر نفسه من العام الماضي كان لها الفضل في كشف طبيعة نظام الفصل العنصري الإسرائيلي أمام العالم وما تلاه من حدوث تحول جوهري في الرأي العام العالمي ضد إسرائيل فإن استشهاد شيرين كان له الفضل في كشف زيف الأسطورة الإسرائيلية أنها واحة ديمقراطية توجد في محيط استبدادي عربي. فقتلها لشيرين أمام كاميرات العالم بكل صلف ووحشية واعتدائها على جنازتها فضح استبداد إسرائيل وسحقها لكل معايير الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وقد أصبحت ابنة “القدس العتيقة” رمزا عربيا وفلسطينيا وصحفيا وإنسانيا من هذه الرموز التي “تبحث الشعوب العربية عنها لتلتف حولها.. تبحث عن قدوة لا تباع ولا تشترى تسير خلفها وكانت شيرين هذه المرأة الرمز” التي فضحت في حياتها عدوها ووحّدت باستشهادها شعبها “كما تقول بحق الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي.