رؤى

الخواجة والشيخ والأفندي..جدلية العلاقة بين ثالوث العلم والدين والثقافة

هل يتصادم العلم مع الدين؟ وما العلاقة بين الموروث الثقافي والمعتقد الديني والتطور العلمي، الذي لايقف عند حد معين؟ وما سر تقدم مجتمعات يحتل الدين فيها موقعا هامشيا، وتأخر أخرى محافظة تبدو متشبثة بدينها؟ تساؤلات تثار بين فترة وأخرى، وفيما يقدم البعض لها ردودا لاتحمل العمق الكافي لوضع حد لحيرة من يطرحونها، فإن هناك من يرفضون أى نوع من النقاش في هذا الصدد، ويصرون على تجاهل القضية برمتها.

الواقع يشير إلى أن هناك ثلاثة نماذج فكرية في حياتنا هي: العلم والدين والثقافة، تجسدت في ثلاث شخصيات.. كما يُعبّر عن ذلك عبد الله العروي بالصورة وهم: المُقَبّع والمُعَمّم والمُطَرْبَش أو الخواجة والشيخ والأفندي… وبحسب الدكتور حسن حنفي في كتابه “الدين والثقافة والسياسة في الوطن العربي” عرفت الثقافة العربية منذ اقدم العصور الوحدة العضوية بين هذه الأنماط الفكرية الثلاثة، في حضارات مصر وبابل وآشور وكنعان، كما عرفتها حضارات الشرق القديم في الهند والصين وفارس قبل اليونان.

وبحسب المفكر الكبير، فقد ارتبطت الفلسفات بالعلم لافرق بين علوم طبيعية وعلوم رياضية، وقد تراكم ذلك في الثقافة الشعبية في مفهوم الحكيم، الذي يعني الطبيب كما خرج كلاهما من الدين، فلا فرق بين الدين الصيني والفلسفة الصينية والعلم الصيني، وكذلك الأمر في الهند ومصر حيث ارتبط التحنيط بعقيدة خلود الروح، وقد استقر هذا المفهوم في الثقافة الشعبية إلى اليوم، حتى أصبح العَالِم هو رجل الدين.

عبد الله العروي
عبد الله العروي

ويشير د.حنفي إلى أمر غريب حدث بعد ذلك؛ حيث تعددت النماذج وتنافرت؛ بل وتضاربت ونفى بعضها بعضا؛ بل وأحيانا تجاوزت وتماست، حتى برزت ازدواجية الثقافة والفكر واشتد الخصام بينها، فكل نموذج يعتبر نفسه الفرقة الناجية ويكفر النوذجين الآخرين، وعلى أحسن تقدير تجمع حضارة بين نموذجين على التجاور أو التماس متنقلة من أحدهما إلى الآخر، دون وحدة عضوية بين الاثنين.

ونظرا لفصل العلم عن الدين؛ انفصلت أحكام الواقع عن أحكام القيمة، كما يرى الدكتور حسن حنفي وكانت النتيجة المباشرة لذلك استخدام السلاح النووي، وإلقاء القنبلة الذرية على اليابان، كما ظهرت قضايا التلوث وموت الطبيعة والكائنات الحية بنفايات المصانع، وأصبح العلم بناء وتدميرا في نفس الوقت وحياة وموتا ونهضة وسقوطا.

يصل المفكر الكبير في كتابه “الدين والثقافة والسياسة في الوطن العربي” إلى نتيجة هامة للغاية؛ يجب التوقف عندها كثيرا، وهى أن الدين بلا علم، مجرد إمكانية بلا تحقق، وغايات بلا وسائل، وطاقة بلا حركة، ومشروع بلا تاريخ؛ حيث يتحول الدين حينئذ إلى مجموعة من العقائد الغيبية والطقوس والرسوم والشعائر الخارجية والمؤسسات الدينية التي تبتغي الترَؤس والتسلط، بل ويعادي العلم إذا نازع الدين في بعض اختصاصاته، مثل محاولة تفسير نشأة الكون، كما يعادي الثقافة التي قد تتجرأ على سلطة رجال الدين، وترفع شعارات حرية الفكر وحق الاجتهاد وحقوق الإنسان، ويحدث ذلك في كل حضارة خلال فترات الضعف وسيادة الاتجاهات المحافظة، مثل الكنيسة في العصور الوسطى، وإبان محاكم التفتيش والمحاكم اليهودية وفتاوى ابن الصلاح التي تحرم الفلسفة.. والدين بلا علم يصبح عزلة عن الدنيا.

الدين والثقافة والسياسة في الوطن العربي

الثقافة هى الأخرى ليست بمعزل عن الداء؛ حيث يذهب الدكتور حسن حنفي إلى أن الثقافة بلا دين أو علم؛ قد تكون مجرد بحث نظري خالص، يطول أو يقصر، يصيب أو يخطئ.. تصبح الحقيقة المرجوة في حد ذاتها، تصورات للنخبة لاتستطيع الجماهير فهمها، أو تحقيقها أوالاستفادة منها في حياتها العملية. فالدين هو القادر على تحويل الثقافة من مستوى النظر إلى مستوى العمل، والعلم هو القادر على تحويل الدين من مستوى الكليات إلى مستوى الجزئيات.

ويضيف أنه في الغرب الحديث ازدوج العلم والثقافة بلا دين؛ فمنذ القرن الثامن عشر أحلوا الثقافة محل الدين، والسياسة محل العقائد، والدولة بديلا عن الكنيسة، وكانت النتجية أن تجاور العلم والثقافة واتحدا ضد الدين، وعلى أنقاضه. ثم غالى العلم في الوضعية، وعادى الثقافة النظرية، وانفرد بالحقيقة كلها وتنافرت النماذج الثلاثة في الغرب، وكأن الإنسان لايستطيع أن يكون عالما ومؤمنا وفيلسوفا في آن.

وينتقل بعد ذلك إلى التجربة اليابانية؛ حيث يشير إلى أنه في اليابان الحديث، ازدوج العلم والدين بلا ثقافة، وقد خرج اليابان في عصر “ميجي” من التقاليد القديمة، الى العلم الغربي الحديث، دون أن يجد فى أحدهما بديلا عن الآخر. وآثر اليابانيون تجاور القديم مع الجديد، والعلم والدين. فالعلم في الحياة العامة والدين في الحياة الخاصة، وينتقل الياباني من أحدهما إلى الآخر؛ دون أن يشعر بالتناقض. يذهب إلى المعبد، ويستدعي الأرواح ويقرأ الكف ويطعم بوذا في الأعياد، ويذهب إلى المصنع، ويتعامل مع أحدث تطورات العلم الحديث، ولايفكر في احتمال وجود علاقة بين الاثنين.

حسن حنفي
حسن حنفي

يقول الدكتور حسن حنفي: “في حياتنا المعاصرة  –نحن العرب– ازدوج الدين مع الثقافة، ونَدُرَ العلم.. فالدين هو ما ورثناه عن القدماء؛ حتى وصفت الثقافة العربية، بأنها ثقافة دينية بالأساس، أما العلم فهو احتكار للغرب وحده، ومنذ فجر النهضة العربية ازدهرت الثقافة من خلال التراث الديني، ومنذ الثورات العربية الأخيرة التي فضّلت تغيير الهياكل الاجتماعية للمجتمعات العربية، وهى في حماسها القومي، وفي نضالها ضد الاستعمار؛ تأجلت قضايا الثقافة باسم الدعاية السياسية، والحقيقة أن الثقافة هى الرباط الطبيعي بين العلم والدين، وبدونها يصبح العلم مجرد صناعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock