بقلم: سعيد المصري، نقلا عن صقحته على الفيس بوك ([1])
في حياتنا نوعية من البشر، لديهم قدرات استثنائية علي ممارسة النفاق الاجتماعي ببراعة، وتحقيق نجاحات كبيرة من خلاله، دون أن يحرك فيهم ذلك أي نوع من الشعور بالخزي أو العار، أولئك الذين يمتلكون القدرة علي ممارسة الكذب، ولا يعرفون الحياء أو الخجل، وهم علي يقين من أنفسهم بأنهم يسيرون على الطريق الصحيح. ويمتلكون أيضا القدرة على تجميل ما يجب إظهاره وتقبيح وشيطنة ما يجب نفيه وإخفاؤه.
إنهم يُجيدون التمثيل ببراعة ومقدرة في التعبير عن المشاعر المتناقضة: الجدية والهزل، والحزن والفرح، والقوة والضعف، الإعجاب والامتعاض، والإطراء والنقد، والاحترام والبذاءة، بما يفوق القدرات الإبداعية الأدائية لدي الموهوبين والنابغين في المسرح والسينما والدراما.
هؤلاء الاشخاص يتسمون بالقدرة، على تحوّل الولاء المطلق من شخص أو جماعة أو كيان، إلى شخص أو جماعة أو كيان آخر، بحسب تحوّل ميزان القوة والنفوذ والمصالح.. فهم لا يعبدون الله! وإنما يعبدون كل ما يقربهم إلى حظوة أي قوة؛ أملا في أن يترتب على هذا القرب منافع وامتيازات وشهرة وعلاقات ونفوذ. وهم على استعداد فائق لخدمة رؤسائهم وتجميل صورتهم، والاستعداد أيضا لتحمل أخطاء رؤسائهم وأولياء نعمهم بدلا منهم، طالما بقيت المصالح آمنة، وإذا تغيرت مواقع النفوذ تغيروا معها بسرعة البرق ودون تردد وبرشاقة وبقلب بارد؛ وفقا لعقيدة راسخة في حياتهم مؤداها: «عاش الملك ، مات الملك» ولا بأس من إنكار فضل رؤسائهم السابقين؛ بل وتشويه صورتهم إذا اقتضت الضرورة، وليس لديهم عزيز وهم قادرون على التضحية بكل ما يهدد وجودهم بموجب المثل الشعبي القائل « إن جالك الطوفان.. حط ابنك تحت رجليك».
هؤلاء لا يجهلون المبادئ والمثل العليا؛ بل يحفظونها عن ظهر قلب، ولكنهم لا يؤمنون بها كمرجعية أسمى في الحياة، علي اعتبار أنها «متأكلش عيش» كما يقول التعبير الشعبي المصري الدارج، وهذا يذكرنا بعبارة وردت على لسان الفنان سعيد صالح في فيلم الأقمر والتي يقول فيها: «عيش ندل تموت مستور». ولهذه النوع من البشر أوصاف كثيرة في التراث الشعبي العربي: كـ «الندل، والواطي، والخسيس، والردي (أي الرديء) وقليل الأصل، وبياع الكلام …إلخ.
بغض النظر عن توظيف هذه المفردات أحيانا سلبا في التمييز بين الناس بحسب أصولهم وانتماءاتهم، غير أن ما يلفت النظر في سلوك هؤلاء البشر أنهم ليسوا ممن تحركهم مبادئ ومثل عليا ولا ضمائر ولا عواطف أو مشاعر ولا كرامة، بل ما يحركهم هو مصالحهم المباشرة فقط، وتكمن عبقريتهم في كيفية التلاعب بالمبادئ والمثل العليا، وإذا كانت قيمة الشخص تتحدد بمقدار تضحياته بالمصالح في سبيل مبادئ يعيش من أجلها، فإن فلسفة هؤلاء الأشخاص تكمن في كونهم يفعلون العكس بقدرتهم علي التضحية بالمبادئ في سبيل مصالح يناضلون من أجلها.
أنهم ليسوا أغبياء بل يتمتعون بالذكاء الشديد، ويدركون احتقار الناس لهم ويحولون ذلك دافعا لهم علي المضي قدما في طريقهم نحو الصعود، ويدركون أيضا مدي ما يعانونه من إذلال أصحاب القوة لهم حين يعاملونهم كالعبيد، ولديهم قدرة مذهلة على ابتلاع الإهانات في سبيل المكاسب التي يحققونها، وهذا أقرب لسلوك الطفيليات التي تتعايش علي الكائن الحي وعلي حساب صحته، ولدى هذه الفئة من الناس إدراك عميق لخريطة علاقات القوة والمصالح ونقاط قوتها وضعفها وخبايا النفاذ إليها، ويدركون أيضا خريطة الفساد جيدا ويعرفون كثيرا من أسرارها بحكم اقترابهم من دوائرها المغلقة.
ومن المثير للتأمل أن هؤلاء الأشخاص يعرفون قواعد اللعبة في بلاط الصعود لأعلي، فالغاية تبرر الوسيلة –حسب ميكافيلي– ومن ثم فإنهم لا يتضامنون فيما بينهم ولا يحركهم ضمير مهني أو علاقات زمالة؛ بل يتسابقون كلاعبي السيرك فرادي لإرضاء كل من بيده قوة عليهم، ويكيدون لبعضهم البعض ويتآمرون في سبيل اقتناص المكاسب والمنافع.
وتتركز هذه الفئة داخل كل دوائر علاقات القوة في كل زمان ومكان، بمقتضي كونهم يمثلون أدوات مهمة في الصراع على المناصب والموارد وما يترتب عليها من منافع، كما أن أصحاب القوة يعرفون هذه النوعية من البشر عن قرب ويدركون أهمية الاستعانة بهم في خدمتهم، وتجميل صورتهم والذود عنهم كحراس للأبواب وصناع للأبواق، ولا بأس من التخلص منهم في الوقت المناسب بعد أن تنتهي صلاحيتهم.
ويدرك أصحاب القوة أيضا مخاطر الاستعانة بهذه الفئة، خاصة حين يؤدي القرب من حظوة الكبار إلي إغراء فعل الكبائر والمحظورات، ولهذا تتوقف مهارة الأقوياء في ممارسة القوة علي مدي تمكنهم من توظيف قدرات مجموعة من أمهر حراس الأبواب وصناع الأبواق والتحكم الكامل فيهم، و التنكيل الفوري بمن لا يعي منهم الالتزام بحدوده المرسومة بدقة.
أقول ذلك من واقع تأملات كثيرة لحصيلة من تجاربنا الحياتية في التواصل الاجتماعي علي مدي سنوات دون تلميح لأحد أو إسقاطات علي أشخاص أو أي مواقف، إنها محض تأملات لا تخلو من مراجعة للذات فلسنا أوصياء علي الآخرين، وتلك حصيلة مشاهدات وتجارب كثيرة لواقع نتأمل فيه أساليبنا في التنشئة الاجتماعية المليئة بحيل التعايش مع مصاعب الحياة، والتي نتعلم بمقتضاها كيف نسبح بمهارة في مواجهة أوضاع غير عادلة، أقول ذلك أيضا من باب التأمل العميق والشفاف لذواتنا قبل أن نتهم غيرنا، ونراجع علامات النفاق التي قد تتسلل إلى وعينا ورؤيتنا للعالم دون أن ندري وننقي أنفسنا من تلك الثقوب السوداء، وندرك الشعرة التي تفصل بين المرونة الواجبة في مهارات التواصل الاجتماعي وسلوك النفاق الاجتماعي البغيض.
[1] – أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب ، جامعة القاهرة.