تمثل الكوميديا الإلهية عند دانتي ملحمة شعرية، طبقت شهرتها الآفاق، وتأثر بها الكثير من الشعراء، ولعبت دورا محوريا في تشكيل الوجدان الأوروبي في العصور الوسطى.
وتتكون ملحمة الكوميديا الإلهية من ثلاث أجزاء هي الفردوس، المطهر، الجحيم.. فالكوميديا الإلهية تسرد أحداثا غريبة لأبطال خارقين، ويسيطر عليها عنصر الحكاية بأسلوب جميل. ومن هنا فقد ذاع صيت تلك الملحمة الشعرية، وتمت ترجمتها إلى لغات عديدة منها اللغة العربية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن العالم المصري الكبير الدكتور حسن عثمان، قد أنفق عشرين عاما من عمره في ترجمتها بدقة وشاعرية وبلاغة وإتقان، ووضع لها من المقدمات والشروح والهوامش ما كشف عن عبقرية مؤلفها وإعجاز بيانها.
والتأثير الإسلامي في تلك الكوميديا واضح كما سوف نرى، إذ استفاد دانتي من التراث الإسلامي في هذه الملحمة الشعرية، بما لا يدع مجالا للشك. ولعل جذور هذا الموضوع والحديث عن ذلك التأثير يعود في البداية إلى مجرد هواجس دارت في خلد المستشرق الفرنسي “بلوشيه” مطلع القرن الماضي، عندما تحدث بأن أصل الكوميديا ممكن أن يكون في التراث الفارسي عند سنائي وغيره؛ ولكنه عجز عن إثبات ذلك البرهان التاريخي، حتى جاء مستشرق وراهب إسباني متبحر في الثقافة والتصوف و الفلسفة الإسلامية هو “آسين بلاثيوس” فعرض نظريته الكاملة عن هذا التأثير في خطابه أمام المجمع اللغوي الملكي عام 1919, ونشرها في كتاب مفصل مدعم بالتحليلات والمقارنات المعتمدة على روايات الإسراء والمعراج من ناحية، وعلى التراث الأدبي والصوفي عند المعري وابن عربي وخاصة في كتاب الفتوحات المكية من ناحية أخرى؛ مبينا طرائق وصول هذه المادة إلى يد دانتي في فلورنسا عن طريق التجارة وحركة الحجيج والحروب الصليبية والنشاط التبشيري، ومحددا أهم مواقع هذا التواصل في الأندلس وصقلية.. وقوبلت هذه النظرية بالرفض القاطع في الأوساط العلمية والأكاديمية الايطالية والأوروبية عامة، إذ عزَّ عليهم الاعتراف أنهم مدينون للتراث العربي الإسلامي بأهم ملحمة أدبية روحية وضعت أصول اللغة والأدب في ايطاليا، وتضمنت أبرز رموز اللاهوت المسيحي والنقد السياسي، وكان ينقص الموضوع دليل مادي مجسم لم يلبث أن ظهر في “وثيقة المعراج” التي اكتشفت في العام ذاته في كل من إيطاليا وإسبانيا، ونشرها “تشيرولي” الإيطالي و”ساندينو” الإسباني بالتوازي بين البلدين.
أدلة حاسمة وبراهين مضيئة
لقد قدمت وثيقة المعراج الدليل الدامغ الذي يثبت النظرية أي تأثير التراث الإسلامي في الكوميديا الإلهية، وقطعت الطريق على منكريها، فأصبحت بذلك من أهم منجزات الأدب المقارن في القرن العشرين، ولعل المشكلة الكبرى كانت تتمثل كما يرى الناقد الأدبي الدكتور صلاح فضل في فقدان الأصل العربي لتلك الوثيقة، وبقاء مخطوطات الترجمات اللاتينية والفرنسية القديمة لها. الأمر الذي يفتح الباب لادعاء عدم وجود هذا الأصل العربي، وأنها كانت تأليفا شعبيا لأهل هذه اللغات ولا صلة للعرب بها. ولعل هذا ما دفع الدكتور صلاح فضل إلى البحث عن كل جزئية في ترجمة مخطوطة المعراج، وردها إلى أصلها العربي المأخوذ من الأحاديث النبوية أو الرقائق الدينية عن الجنة والنار وأشكال النعيم وصور العذاب، وتوصل إلى أن كل هذه الجزئيات، مبثوثة في المصادر الإسلامية الكبرى من كتب الحديث والتفسير والمواعظ والموسوعات، فأورد مقابل كل مشهد في الوثيقة المترجمة ما يتطابق معها من نصوص وصور، كما برهن على أن التراث الإسلامي والخيال الشعبي هي أصل هذه المشاهد التي نقلها المترجم الأوروبي واطلع عليها دانتي في المكتبات التي عثر فيها على مخطوطات الوثيقة، واستلهم منها بناءه الملحمي الشامخ بتركيبه الأدبي البليغ.
وكان من أهم نتائج ذلك أمران: أولهما أن إثبات هذا التأثير البالغ، لعناصر الثقافة والتراث الإسلامي العربي، في واحد من أعظم المؤلفات الأوروبية، التي أسست للغة والفكر والفن واللاهوت والثقافة والفلسفة المسيحية في جملتها، يعطينا نموذجا مكتملا معززًا بالشواهد والوثائق على مرحلة العطاء العربي في الآداب، حيث أسهمت ثقافتنا العربية الإسلامية في تخليق بعض عناصر النهضة الأوروبية في الفكر والفلسفة والآداب والعلوم، ما من شأنه تحريرنا من عقدة النقص، وجعلنا نتقبل راضين دينامية التواصل الحضاري.
أما الأمر الثاني، فهو الالتزام بالإيقاع المتوازن المضبوط، في تقدير العمل العبقري الذي ندرسه ونبحث عن حفرياته ومواده الأولية. فالكوميديا الإلهية ملحمة خالدة كبرى تؤسس للمعرفة والفن وللقيم الروحية لأوروبا المسيحية في العصور الوسطى، وإفادة دانتي في بنائها الشامخ من هيكلة أشكال الفردوس وصور النعيم فيها وأوضاع الأعراف وطبيعتها ونوعية سكانها، ودرجات الجحيم ونماذج العذاب فيه من عناصر التراث العربي الإسلامي، كانت عوامل مساعدة له لكي يأخذ ويستفيد من بعض هذه المواد، وما أضاف إليها من المثيولوجيا اليونانية والفلسفة المسيحية.. جعلت من الكوميديا الإلهية بناء شامخ أدبيا، ومن هنا.. فقيمة العمل الفنية والرمزية لا ينقص باكتشاف مصادره، وعلينا أن نضعها في موقعها الصحيح دون الانحراف لنزاعات التعصب الثقافي، وتمجيد الذات على حساب الآخرين. لذا لا ينقص من أهمية الكوميديا الإلهية أخذها أو تأثرها بالتراث الإسلامي..
الكوميديا وآفاق التشابه مع التراث الإسلامي
ولعلنا نوضح هنا التشابه الكبير والتأثير العميق، بين كوميديا دانتي والتراث الإسلامي، خاصة في الإسراء والمعراج؛ إذ يوجد في كتاب “أثر الإسلام في الكوميديا الإلهية” الخطوط العامة لعروج دانتي وبياتريتشي إلى سموات الجنة، وقصة رمزية أخرى لعروج فيلسوف صوفي إلى السماء، جاءت في كتاب الفتوحات المكية للصوفي الأندلسي ابن عربي. وينطلق مؤلف الكتاب في تقديمه لوجهه نظره، من أن قصة ابن عربي الرمزية، لم تكن غير تكييف صوفي لقصة عروج أخرى إلى السماء كانت شائعة في الأدب الإسلامي، وهي قصة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما كانت قصة المعراج مسبوقة بإسراء من مكة إلى القدس، فأن تلك المأثورات الإسلامية في هذا الموضوع هي النموذج الأساسي الذي استقى منه دانتي تصوراته عن العالم الآخر. ولعل ما يؤكد هذا التأثير الإسلامي –كما يشير كتاب أثر الإسلام في الكوميديا الإلهية– هو المطابقات والمشابهات القائمة بين القصص الإسلامية وكوميديا دانتي. ومما يؤكد تأثر دانتي أيضا بالتراث الإسلامي، أن دانتي جاء في عصر استعراب كامل لأوروبا، وهو ما مكنه من الاطلاع على الأدب الإسلامي. وأنه لولا ذلك ما خرجت الكوميديا الإلهية من بين أفكار دانتي بالصورة التي خرجت بها. وهو ما أكده الدكتور حسن عثمان في القول بأن التراث الإسلامي عن العالم الآخر، كان معروفا في أوروبا حينما كانت الحضارة العربية والإسلامية صاحبة القدح الفعلي، وقد تم التفاعل عن طريق الأندلس وصقلية.
أيضا من صور التشابه والتأثير الإسلامي، في الكوميديا الإلهية إن الرحلتين بدأتا ليلا بعد أن يوقظ بطل القصة من نوم عميق، ويعترض أسد وذئب في إحدي القصص التي حاكى فيها المؤلف المسلم، قصة المعراج أي في رسالة الغفران طريق المسافر المؤدي إلى النار. وكذلك يعترض طريق دانتي نمر وأسد وذئبة. كذلك التصميم العام للجحيم صورة طبق الأصل من النار الإسلامية، وكل منهما على صورة قمع كبير أو مخروط مقلوب، كما أن تصميم الجنة في القصة الاسلامية و في كوميديا دانتي متطابق.
خلاصة القول يتضح تأثير التراث الإسلامي من خلال قصة المعراج ورسالة الغفران وكتاب الفتوحات المكية لابن عربي في الكوميديا الإلهية لدانتي. وهذا واضح بالبراهين و الوثائق التي لا سبيل إلى إنكارها أو رفضها.