مختارات

عنترة بن شداد في باريس!

 د. محمد صابر عرب، نقلا عن صفحة الكاتب على فيس بوك

في عام ١٩١٠، أصدرت مصلحة “البوسته” المصرية تقريرًا بعدد الجرائد والمجلات التي كانت تصدر في مصر، وقد أحصى التقرير عددها عن عام ١٩١٠، بـ١٢٤ جريدة ومجلة، بينما كان عددها في العَقد الأول من نفس القرن ١٤٤، وكانت معظم الصحف والمجلات التي حُجبت عن الظهور تصدر باللغة العربية، بينما لم يُحتجب من الصحف الأجنبية إلا صحيفة واحدة. وكانت معظم الصحف تصدر في القاهرة، وبلغ عددها ثمانون، وفي الإسكندرية سبع وثلاثون، وثلاثة في كل من بورسعيد وطنطا، وصحيفة واحدة تصدر في أسيوط.

المتابع لتاريخ الصحافة المصرية يعلم أن هذا النقصان كان بسبب صدور قانون المطبوعات ١٩٠٩،  الذي وضع قيودًا صارمة لعمل الصحافة بدوافع سياسية خالصة، وتحت ضغط من سلطة الاحتلال البريطاني.

في الأول من مارس ١٩١٠، صدرت مجلة شهرية جديدة في محتواها وفي فكرتها (مجلة الزهور) لصاحبها أنطون الجُميل، واستمر إصدارها لأربع سنوات فقط، وهي مجلة ثقافية وفكرية وفنية وأدبية، وقد حددت فكرتها منذ صدور العدد الأول مارس ١٩١٠، فقد عُنيت ببعث الثقافة العربية أدبا وشعرًا وتاريخا، وخصوصًا في الموضوعات التي يجهلها الأبناء مع مطلع القرن العشرين، حينما نشرت المجلة ما يمكن تسميته بالتراث البناء، الذي أبدعه الكتّاب والشعراء العرب طوال القرون المنصرمة، وقد ابتعدت عن السياسة والدين، سواء أكان ذلك بسبب قانون المطبوعات، أو خوفًا من الخلافات السياسية والمذهبية، التي من الممكن أن تُدخل المجلة في صراعات لا طائل من ورائها.

اختارت هيئة تحرير المجلة عددا من شوامخ الكتاب والشعراء العرب، من بينهم إبراهيم الحوراني وأحمد شوقي وخليل مطران وإسماعيل صبري وبشارة الخوري وحافظ إبراهيم ومصطفى المنفلوطي وشبلي شوميَّل ومحمد كرد علي وولي الدين يكن ونعيم شقير وغيرهم كثيرون من مصر والشام والعراق وطرابلس الغرب والجزائر، وصولا إلى المثقفين العرب في أوروبا والأمريكتين، وقد نشرت المجلة أروع ما كتبه الكتاب والشعراء العرب القدامى والمحدثون، كما أفسحت مساحةً كبيرة للترجمة عن أروع ما خلّفه العقل الأوروبي من أعمال فكرية وشعرية ومسرحية، وقد عُنيت المجلة بكل ما هو جديد في عالم الثقافة والفن، في كل القارة الأوروبية من خلال المراسلين العرب المقيمين في هذه البلاد، لتعريف القارئ العربي بكل ما هو جديد في عالم النشر والإبداعات الفكرية والثقافية والمسرحية. ومنذ العدد الأول وحتى العدد الأخير من إصدارات المجلة وهي تقدم وجبة ثقافية وفكرية راح يتلقفها القارئ العربي من المحيط إلى الخليج.

أحمد شوقي
أحمد شوقي

غطت المجلة أخبار الكتب الجديدة قبل الانتهاء من طباعتها وشيوعها بين القراء، من قبيل كتاب “النظرات” لمصطفى المنفلوطي، والجديد في عالم المسرح لكبار الكتاب والشعراء، وخصوصًا أشعار أدمون روستان في نفس الوقت الذي كانت تُنشر فيه في باريس، وقد قارنت المجلة بين هذا الشاعر الفرنسي الكبير، وبين الشاعر المصري حافظ إبراهيم، وخصوصًا في العائد المادي، إذ كان روستان يتقاضى عن بيت واحد من الشعر ما يتقاضاه حافظ إبراهيم عن عشرات القصائد، ولعلها قضية ماتزال قائمة رغم مرور أكثر من قرن على هذه الظاهرة.

أفردت المجلة في كل أعدادها مساحة كبيرة للمسرح العربي، وخصوصًا عن بداياته في أوروبا، وقد غطت المجلة عرض مسرحية “عنتر بن شداد” في باريس، حينما عُرضت على مسرح أوديون، وقد كتبها بالفرنسية شعرا شكري غانم  وأجاد ترجمتها وصياغتها بلغة شعرية رائعة، وخصوصًا حينما تخيل عنترة وهو يجوب البوادي في شكل درامي بديع، وقد رصدت المجلة ردود فعل الفرنسيين على هذا العمل الذي هز قلب باريس طربا وإعجاباً، وقد رأى مراسلو المجلة أنه عمل يفوق ما قدمه ڤيكتور هيجو وشكسبير، ولا يدانيه في تاريخ هذا الإبداع إلا دانتي، وخصوصًا وهو ينظر إلى خليلته عبلة مخاطبا إياها بلغة فرنسية رشيقة، حينما يقول بلغة بني عبس:

               ولقد ذكرتك والرماح نواهلُ           مني وبيض الهند تقطر من دمي

               فوددت تقبيل السيوف لأنها            لمعت كبارق ثغرك المتبســــــــم

المنفلوطي
المنفلوطي

وعنترة بهذه الصورة الدرامية العميقة يُعلِي من قيمة ما قاله الشعراء العرب على ما قاله شعراء الغرب، حينما يجسد البطولة، حيث تكون رجولة العشاق، وكيف يُحلَّق الشاعر في عالم الخيال، ولا يأنف الباريسيون أن يعشقوا البدوي الأسود لشهامته، لأن الفضيلة ملك للإنسانية جمعاء، فلا هي بدوية ولا هي حضرية. ولعل أجمل ما قيل في هذا السياق ما أبدعه عنترة في مشهد درامي بديع.

             تُعيرنيَّ العدا بسواد جلدي           وبيض شمائلي تمحو السواد

فتلك المروءة تتفق وكل الفضائل، ولا تستنكفها أية ثقافة إنسانية. وكان شكوي غانم في كل ما كتب وترجم يستعيد روح عنترة بلغة فرنسية بديعة، ولم يشعر الفرنسيون بأي اضطراب في المعنى، وهو بهذا يكون قد فتح بابا للثقافة العربية في باريس، وخصوصًا حينما أنشد على لسان عنترة:

            حصاني كان دلَّال المنايا           فخاض غمارها وشَرى وبــاع

           وسيف كان في الهيجاء طبيبا       يداوي رأس من يشكو الصداع

فأي جمال يفوق هذا الجمال؟ فما أروع الباريسية التي ألبسها الشاعر لباس البدوية.

لعل من المهم أن نختار من تراثنا أدبا ونثرا وشعرا ما يُعلي من قيمتنا في كثير مما حُفظ من هذا الفيض الإنساني الرائع. فحينما ترجمت “ألف ليلة وليلة” إلى اللغة العربية والفرنسية شعر المثقفون الأوربيون بعظمتها وبهائها، وحينما ترجم شعر حسن الخيام بلغة إنجليزية رفيعة أشاد النقاد والصحفيون بروعة هذا العمل الكبير.

لقد أحدثت مسرحية عنترة ردود فعل عظيمة من النقاد والصحفيين في باريس، وقبل ذلك كانت الكثير من الأعمال العربية قد تعرف عليها الأوروبيون من خلال ترجمات الريحاني وغانم ومردوس وغيرهم، لذا انفتحت آفاق جديدة للثقافة العربية أمام العالم، وقد رصدت مجلة الزهور تزاحم الجماهير الفرنسية الغفيرة على مشاهدة مسرحية “عنترة بن شداد” وقد أحصتهم المجلة بالآلاف، وقد علق مراسل “الزهور” على ما أحدثته المسرحية من ردود فعل بقوله: “ليس الغزاة من يفتحون البلاد بالمدافع بل أعظم منهم وأنبل من يفتحون القلوب بالثقافة”.

أحدثت مسرحية عنترة بن شداد ضجة كبيرة في فرنسا، حينما عُرضت في باريس ونيس، وقد أشادت الصحف الفرنسية بها، من قبيل لوفيجارو ولوچورنال وغيرهما من أمهات الصحف الفرنسية.

واكب ظهور مجلة الزهور حركة ثقافية وفنية كبيرة، وخصوصا في مجال المسرح، حينما تُرجمت إلى العربية الأعمال الكبيرة التي كانت تُعرض في باريس ولندن، من قبيل رواية يوليوس قيصر لشكسبير، وقد نشرتها “الزهور” في أعداد منتظمة، ومثلها چورچ أبيض في نفس الوقت الذي كانت تُعرض فيه في باريس، كما شهدت دار الأوبرا المصرية عرض مسرحيات عالمية كبيرة، كالأحدب لڤيڤال، و”مضحك الملك” لڤيكتور هيجو، و”الساحرة” لڤيكتور ريان، و”مدرسة النساء” لموليير، وبينما كانت كل هذه الأعمال تُقدم باللغة العربية الفصيحة، فقد شذ عن هذه القاعدة عثمان بك جلال، الذي نقل روايات موليير بالزجل، وبلغة عامية مدهشة.

المتابع لحال المسرح العربي في حياتنا المعاصرة يشعر بقدر من الألم، سواء في سطحية الموضوعات التي تُقدم، أو في مستوى الممثلين والمخرجين، وهي أزمة يشعر بها كل المتابعين للواقع الثقافي العربي، ولعل بعد هذا العرض من المناسب أن نطرح سؤالا: أليس من اللائق أن نعيد عرض هذه الأعمال الفنية الكبيرة، سواء المترجمة من المسرح العالمي، أو المستقاة من التراث العربي؟ أعتقد أن حاجتنا إلى المسرح لا تقل أهمية عن حاجتنا إلى المدرسة والجامعة، ولا تقل أهمية عن حاجتنا إلى الغذاء، حتى نُصلح النفوس ونُشيع الوعي بين مواطنينا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock