لقد ركزت كافة القوى، طوال تاريخ المنطقة العاصف، على الاستيلاء على القدس؛ إذ كانت السيطرة على المدينة تعنى السيطرة على المنطقة بأسرها. وهي بإطلالتها من عليائها، من ذرى التلال، على طريق الإمبراطوريات القديم، قد أكدت أهميتها الاستراتيجية، كما أشرنا ونشير دائمًا.
اليوم، مع التقدم الإعجازي الذي تحقق في العلوم والتقانة (التكنولوجيا) ومع تأثير هذا التقدم على طبيعة القتال، تقلصت أهمية القدس الاستراتيجية على المستوى العسكري؛ لكنها رغم ذلك ازدادت احتفاظًا بأهميتها الاستراتيجية على المستوى السياسي، نتيجة الصراع بين العرب وإسرائيل؛ ناهيك عن احتفاظها بقيمتها العقائدية والمعنوية لدى الأديان الثلاثة الكبرى.
القدس والإطار العربي
والواقع، أنه لا يمكن فهم قضية القدس إلا في إطار تاريخي عام، يتعدى حدود فلسطين، إلى إطار المنطقة العربية ككل، أو بالأحرى إلى إطار الوطن العربي الكبير، الذي شاركت في صنع أحداثه؛ كما كانت جسرًا يربط شطري هذا الوطن، الأفريقي والآسيوي، وذلك قبل أن تقوم الأطماع والتدخلات الأجنبية والإسرائيلية بعزل فلسطين عن الوطن العربي، وفصل قضية فلسطين عن القضية العربية وتحويلها إلى قضية قائمة بذاتها.
وقد كانت نتيجة هذه التدخلات وتلك الأطماع، التي هي أطماع اقتصادية وسياسية بالمفهوم الواسع، تسترت وراء أوضاع دينية لكسب التأييد؛ كانت النتيجة أن أصبحت للقدس قضية خاصة، ليس فقط في الميدان الدولي والعلاقات السياسية، بل أيضًا – وهذا هو الأهم– على مسار الصراع بين العرب وإسرائيل.
وبالرغم من هذا الموقع المركزي الذي تتمتع به القدس، على مسار الصراع الذي تحوّل الآن، عن طريق العملية التفاوضية إلى علاقات تعاون وانفتاح؛ إلا أن إعلان المبادئ الذي تم توقيعه في 13 سبتمبر 1993، بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية (الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني) لم يشر إلى وضع القدس، بل وتم تأجيل الموضوع برمته إلى المفاوضات النهائية.. هذا يعني أن هذه المفاوضات النهائية بشأن وضع القدس، ستكون مضطرة إلى إنهاء التمديد الاستراتيجي لكلا الجانبين، وتوفير رابط إقليمي ما، توافق عليه إسرائيل.
غير أن التساؤل الذي يفرض نفسه هنا، هو.. هل يمكن لإسرائيل أن تتنازل عن القدس، خاصة في ظل الموقع المتميز والقوي اللذين تتمتع بهما إسرائيل راهنًا؟
القدس والرؤية الإسرائيلية
هنا.. يكون من الضروري أن نعود إلى الحقيقة التي ربما يغفل عنها الكثيرون.. وهي أن الوزارات والوزراء يتغيرون في إسرائيل، ولكن تبقى المنظومة الاستراتيجية لها، كما وضعت من قبل إنشائها، دون تغيير، وأنه على كل وزارة أو حكومة بالأصح، أن تواصل تحقيق أهداف هذه المنظومة طبقًا لمراحلها الزمنية الملائمة لها، حتى وإن اختلفت مناهج وأساليب التنفيذ من حزب لآخر.
نذكر أنفسنا بهذه الحقيقة، بعد أن تحولت استراتيجية “اللاءات” إلى إسرائيل، بعد أن كانت لدى العرب، ولنا في حزب العمل وتكتل الليكود أمثلة تكفي على ذلك.. وكان حزب العمل يحاول إخفاءها ويسعى إلى تحقيق نفس أهدافها من خلال أسلوب “الشرق أوسطية” الذي ابتدعه شمعون بيريز(وزير خارجية إسرائيل) إحياءً لمنهج الكومنولث العبري الذي نادى به الصهيوني المتطرف جابوتنكسي في الثلاثينيات.
وتعد استراتيجية “اللاءات” تلك من ثوابت السياسة الأمنية لإسرائيل ببعديها الخارجي والدفاع. وأهم هذه “اللاءات” هي لا لمناقشة موضوع القدس، لا لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، لا لإزالة المستوطنات.
مسألة الاستيطان الإسرائيلي بصفة عامة، وفى القدس على وجه الخصوص إذن من ثوابت الاستراتيجية الحاكمة للإدارات المتعاقبة في إسرائيل. يوضح ذلك، بل ويؤكده الاقتراب من هذه المسألة، والتعرف على السياسات الخاصة بها، سواء من جهة حزب العمل، أومن جهة تكتل الليكود.
القدس والعمل والليكود
من جهة، يمكن ملاحظة الفترة التي حكم فيها حزب العمل (منذ عام 1992 إلى عام 1996) والتزم فيها بعدم إنشاء مستوطنات جديدة، بسبب تقديمه لمشروع سلامه لحل الصراع مع العرب. يمكن ملاحظة أن العمل كحزب حاكم، قد سمح رغم ذلك بزيادة إجمالي عدد المستوطنين الإسرائيليين، في كل من الضفة والقطاع والقدس بنسبة 40 %، عما كان عليه عددهم قبل الانتخابات (عام 1992).
وهو ما يعني أن حزب العمل التف حول القرار، أو الاتفاق الذي قدمه.. فبدلًا من إنشاء مستوطنات جديدة، أوالتوسع في مساحة المستوطنات الموجودة، وهو ما كان سوف يشكل خرقًا صريحًا لما اتفق عليه، لجأ إلى زيادة الكثافة السكانية في المستوطنات، وبذلك نفذ ما أراد من سياسات؛ وفي الوقت نفسه، بدا وكأنه التزم بما وعد به. المهم أن هذه النسبة (40 %) قد رفعت عدد المستوطنين الإسرائيليين في الضفة والقطاع والقدس، من حوالي مائة وعشرة آلاف مستوطن، إلى ما يزيد على مائة وخمسين ألفًا من المستوطنين.
من جهة أخرى، عندما جاء الليكود إلى الحكم بعد انتخابات عام 1996، صرح رسميًا، في البداية بأن مشروعه بالنسبة للمستوطنات هو دعمها اقتصاديًا بما يسمح لها باستيعاب خمسين ألفًا من المستوطنين الجدد. ويعني ذلك زيادة الكثافة السكانية في المستوطنات في الضفة والقطاع والقدس، بما يصل إلى أكثر من مائتي ألف مستوطن. بعد ذلك صرح الليكود برفع الحكومة للحظر المعلن، من قبل حكومة العمل السابقة، وسمح بالتوسع في مساحات المستوطنات، والبالغ عددها “145” مستوطنة.
ومن ثم، فإنه لا فارق كبير بين الليكود والعمل، حيث يبدو وكأن الليكود لا يقيم مستوطنات جديدة، بل يدعم ويقوى ما هو موجود وقائم.
ولعل الملاحظ هنا، أن مشروع قيام المستوطنات، والذي استمر لعقدين زمنيين، صمم على أساس قيام هذه “القلاع” وتقويتها كقواعد بشرية، بل واقتصادية تصد وتمنع التلاحم الفلسطيني في حالة إذا ما طرح أحد الحلول؛ بما يعني أن إنشاء المستوطنات على الأرض العربية في فلسطين، كان فكرة ومشروع الدولة الصهيونية ذاتها، ولم يكن مشروع أحد الأحزاب المتصارعة على الحكم في إسرائيل. فهذه الأحزاب، تتمسك بالمضمون ويتصرف كل منها بالشكل الذي يراه مناسبًا، حسب الظرف السياسي الآني.
في هذا السياق.. تأتي أهمية بل وضرورة الاقتراب من أبعاد مخطط الاستيطان الإسرائيلي في مدينة القدس لاستكمال تهويدها وإزالة ما تبقى بها من هوية “عربية ـ إسلامية”.
القدس والتخطيط الإسرائيلي
لم يعد خافيًا أبعاد هذا المخطط إذ إن إسرائيل قد كشفت عن أبعاده، من خلال سعيها لتحقيق الهدف الأساس، والمتمثل في “القدس الكبرى الموسعة، يهودية نقية، وكتلة استيطانية ضخمة، تمزق مرة وإلى الأبد الوحدة الجغرافية للضفة الغربية”.
وفي ما يبدو، فإن هذا المخطط يستهدف أن تكون القدس الكبرى بمثابة “متروبوليتان” تمتد غربًا باتجاه تل أبيب، وجنوبًا باتجاه حلحول والخليل، وشمالًا إلى ما وراء رام الله، وحتى حدود أريحا شرقًا.. وهو ما يعني الضم الكامل للقرى القديمة.
وهذا الهدف، يتمثل في ضم حوالي 1250 كم، ثلاثة أرباعها من أراضي الضفة الغربية؛ كما يتمثل في أن مساحة القدس الكبرى سوف تبلغ 21 % من مساحة الضفة، بحيث يبلغ طول المدينة 45 كم وعرضها 25 كم.
أما أخطر أهداف الخطة، فهو ما يتعلق بالمسجد الأقصى، حيث تستهدف ملامحها العامة تقويضه بزعم إقامة ما يسمى بـ”هيكل سليمان” على أنقاضه، ولقد استخدمت إسرائيل أساليب مختلفة، لتحقيق هذا الهدف آخرها إجراء حفريات بطول 400 متر، بزعم البحث عن قواعد الهيكل وإنشاء نفق طولي تحته يصل إلى بيت لحم بحذاء السور الجنوبي للمسجد، وأسفرت هذه الحفريات عن كشف الآثار الأموية في الأراضي المحيطة بالمسجد.
وعلى عكس ما يتبع في البحث عن الآثار في كل دول العالم، حيث تستخدم أساليب الحفر اليدوي، فإن إسرائيل استخدمت آليات ضخمة بهدف مكشوف وهو تقويض دعائم المسجد من الأعمدة والأسوار والجدران التي مضى علي بنائها مئات السنين، كما تستخدم إسرائيل أجهزة متطورة لإحداث موجات اهتزازية عنيفة، تسرع في تحقيق هذا الهدف.
ومما لا شك فيه، أن نجاح الإسرائيليين في تقسيم الحرم الإبراهيمي بين المسلمين واليهود، وتحويل جزء منه إلى كنيس يهودي؛ يعد سابقة خطيرة لم يشهد التاريخ لها مثيلًا وتحديًا سافرًا لمشاعر المسلمين في العالم، وانتهاكًا صارخًا لكل القرارات الدولية التي تمنع إسرائيل من التعدي على المقدسات الإسلامية في فلسطين أو تغيير هويتها أو طمسها.
نقول: لقد شجع السكوت على جريمة تقسيم الحرم الإبراهيمي الإسرائيليين، وأعطاهم دافعًا قويًا، على محاولة تطبيق هذا المبدأ في المسجد الأقصى وقبة الصخرة.
قولنا الأخير هذا، ليس مجرد استشراف “نظري” للمستقبل، وليس مجرد مقولة “انطباعية” لبعض الأحداث التي قام، أو يقوم، بها متطرفون يهود، كما يحاول الإسرائيليون تبيانها؛ بل إنه “حقيقة” تتأكد كل يوم على الأرض.
إنها الحقيقة التي تشير إلى مركزية القدس: ليس فقط في السياسات الإسرائيلية؛ بل أيضا، في الفكر السياسي الإسرائيلي… يتبع.