التنمية المستقلة
أ. فهمي الكتوت
كاتب وباحث اقتصادي أردني
تشترك الدول العربية في عدد من الخصائص الاقتصادية، تتمثل في انخفاض مستويات المعيشة والاعتماد على الخارج في تأمين الحاجيات الضرورية للحياة، وارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض معدلات الاستثمار، ومع ذلك لا يمكن وضع كل الدول العربية في سلة واحدة، فهناك مجموعة دول مجلس التعاون الخليجي التي تتميز معظمها بمتوسط دخل مرتفع بسبب اعتماد اقتصادها بالدرجة الأولى على الصناعات الاستخراجية “النفط والغاز”. إضافة إلى العراق والجزائر وليبيا.
ويمكن تقسيم الوطن العربي إلى مجموعات ثلاث، أصبح لكل منها خصائصها ومكوناتها، وبعضها نجح بتشكيل منظومته السياسية والاقتصادية.
دول مجلس التعاون الخليجي وتضم هذه المجموعة دول نفطية ويقدر الناتج المحلي الإجمالي لهذه المجموعة 1,646,956 تريليون دولار، ويشكل نحو 60 % من الناتج المحلي الإجمالي لمجموعة البلدان العربية، ويقدر عدد سكان المجموعة بحوالي 57,385 مليون نسمة نحو 13 % من مجموع الدول العربية.
تجمع الدول المغاربية ويضم مجموعة من الدول معظم ثقافتها فرنسية، رغم أن أنظمة الحكم فيها متباينة ملكية وجمهورية إلا أن غالبيتها لا تتمتع بديمقراطية حقيقية، كباقي أنظمة الحكم في الوطن العربي، عدا عن وجود خلافات وصراعات بين أطرافها حول الصحراء.
المجموعة الثالثة: وتضم مصر، السودان، سوريا، العراق، الأردن، لبنان، فلسطين. ووجود الاحتلال الصهيوني في فلسطين حرم هذه المجموعة من التواصل البري وهي من أهم أسباب إقامة الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي لمنع تحقيق أهدافه في الوحدة العربية، وليس هناك أهم من قضية تحرير فلسطين، ومع ذلك يمكن مؤقتا إقامة جسر أو نفق تحت البحر في منطقة خليج العقبة يوصل المشرق العربي بالمغرب العربي وإنشاء سكك حديدية، لتشجيع التجارة البينية. المجموعات الثلاث؛ مؤهلة بتشكيل تكتلات واتحادات اقتصادية، تمهد الطريق أمام مشروع تنموي عربي موحد، فالروابط القومية والدينية والثقافية التي تجمع شعوب الوطن العربي أعمق وأقوي من الروابط التي جمعت دول الاتحاد الأوربي، والمصالح المشتركة والعوائد الاقتصادية والمالية التي تعود للمستثمرين خاصة وللشعوب العربية عامة تعطي المشروع التنموي العربي أهمية كبيرة، ونتائج المشروع تتعدى المصالح الاقتصادية للمستثمرين والعمال، فهي توفر الأمن الغذائي للمنطقة والاعتماد على الذات. أما معيقات التنمية فهي كثيرة منها داخلية تتعلق بطبيعة أنظمة الحكم في الوطن العربي، ومنها خارجية متصلة بمصالح الاحتكارات الرأسمالية، ويمكن تقسيمها إلى قسمين:
الدول النفطية: من سمات هذه الدول الاعتماد على العائدات الريعية لتسديد التزاماتها المالية، فالدول الريعية ليست معنية بإقامة نظم ديمقراطية، فهي لا تكتسب شرعيتها من صناديق الاقتراع، بل تفرض سلطاتها من خلال الإنفاق المباشر على الأفراد والخدمات العامة، وغالبا ما تأخذ شكل المكرمات وليست الحقوق. وهناك نموذج آخر ينطبق عليه مواصفات الدولة شبه الريعية، الذي يجمع بين تحويلات المغتربين في الخارج لتمويل جزء هام من المستوردات، وبين المنح والقروض الخارجية من جهة، وتحصيلات الضرائب لتأمين معظم نفقات الدولة من جهة أخرى، وهو النموذج الأكثر تشوها، فهو يُحصل الضرائب ويحرم دافعي الضرائب من حقوقهم. هناك علاقة جدلية بين الاقتصاد الريعي ومصادرة الحريات العامة في الوطن العربي وغياب الديمقراطية، حيث يمنح تدفق الريع الخارجي للدولة استقلالا ماديا كبيرا يعفيها من الحاجة لاكتساب شرعيتها من خلال صناديق الاقتراع.
يتضح مما تقدم أن الدول الريعية ليست محصورة في الدول النفطية أو الدول التي تمتلك موارد طبيعية، فهناك دول شبه ريعية تعتمد على المساعدات الخارجية وحوالات المغتربين في الخارج، وعلى الرغم من وجود تباين كبير بين النماذج المختلفة من النواحي الاقتصادية والاجتماعية، إلا أن الجامع المشترك بينهما؛ تخلف القوى المنتجة وطغيان النمط الاستهلاكي الذي عمق الفجوة بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة، على مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، فالريع يقتل روح المبادرة ويطمس الكفاءات ويضع قضية الولاء للسلطة أو الحاكم مدخلا للحصول على الامتيازات والمكاسب في ظل مؤسسات بيروقراطية مترهلة.
الدول غير النفطية: معظمها خضعت إلى إملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين بعد إغراقها بالمديونية “التصحيح الاقتصادي” وإلزامها بسلسلة من الحزم والإجراءات الاقتصادية والاجتماعية التزاما بما يسمى برنامج السياسات المالية والاقتصادية النيوليبرالية، وترتب على ذلك إجراءات اقتصادية انكماشية مست مصالح الفقراء والشرائح الوسطى في المجتمع، وكانت تتلخص بتحرير الأسعار وزيادة الضرائب غير المباشرة وتحرير التجارة الخارجية وإلغاء الحواجز الجمركية لتسهيل انسياب السلع وإطلاق آليات السوق المنفلتة، وخفض الإنفاق الحكومي على الخدمات ورفع الحماية عن الإنتاج الوطني، وتولّي القطاع الخاص قيادة الاقتصاد، وإلغاء القيود على الاستثمارات الأجنبية وتحرير أسواق المال ورفع الدعم عن السلع الضرورية، وخصخصة الشركات المملوكة للدولة.
جاءت هذه السياسات ضمن التوجهات الاقتصادية للاحتكارات الرأسمالية متعددة الجنسيات، الهادفة إلى توسيع السوق الرأسمالي والاستيلاء على مقدرات شعوب الأرض وإخضاعها للتبعية المطلقة، ضمن الرؤية الأيديولوجية لليبرالية الجديدة ومدرسة شيكاغو المستندة إلى عقيدة الصدمة: “صعود رأسمالية الكوارث التي طبقتها، سياسياً واقتصاديا واجتماعياً، من إندونيسيا سوهارتو إلى تشيلي والأرجنتين ومصر السادات وشرق آسيا وصولاً إلى الأردن والعراق؛ إذ يقوم مذهب رأسمالية الكوارث على استغلال كارثة، سواء كانت انقلابا، أم افتعال هجوم إرهابي، أم انهيارا للسوق، أم حربا، أم تسونامي، أم إعصارا، من أجل تمرير سياسات اقتصادية واجتماعية يرفضها السكان في الحالة الطبيعية. وقد أُعدّت البرامج الخاصة لهذا الغرض”.
واضح أن سياسات صندوق النقد الدولي لم تستهدف تصحيح الاختلالات في ميزان المدفوعات بقدر ما استهدفت فرض السياسات النيوليبرالية، بإصدار حزم كاملة من الإجراءات المالية والاقتصادية، وأهمها:
زيادة العبء الضريبي، وتقليص الخدمات الحكومية، ووقف الدعم، وتطبيق سياسة التخاصّية. وتجربة عدد من
البلدان العربية مريرة في هذا المجال، فقد أسهمت إملاءات صندوق النقد الدولي في تعميق الأزمات المالية والاقتصادية.
القطاعات الانتاجية
القطاع الزراعي
يُعد القطاع الزراعي من أهم القطاعات الاقتصادية، ويشكل الركيزة الأساسية للتنمية الاقتصادية، وقد أصبح يحظى باهتمام أكبر في التنوع الحيوي والتوازن البيئي الذي يكفل ديمومة الموارد وحفظ حقوق الأجيال القادمة، ويعتبر المصدر الرئيس لدخل نسبة كبيرة من السكان، ويفترض أن يكون المصدر الرئيسي للغذاء في البلاد. وتسهم التنمية الاقتصادية في القطاع الزراعي في تحقيق التنمية الشاملة، وردم الفجوة بين الأرياف والمدن. ويتمتع هذا القطاع بأهمية خاصة بالمساهمة في معالجة قضايا الفقر والبطالة، وهو من القطاعات الجاذبة لعمل المرأة، إذ يتميز هذا القطاع باستقطاب النساء للعمل في الإنتاج الزراعي وفي المهن المرتبطة به، وغالبا لا تتقاضى المرأة أجرا عن عملها، إلا أن هذا العمل يسهم في اقتصاد الأسرة الريفية وفي تخفيف آثار الفقر، بالإضافة إلى إسهام المرأة في الاقتصاد المنزلي عن طريق حديقة المنزل؛ في تربية الطيور والمواشي، وزراعة الحديقة لتحقيق الاكتفاء الذاتي، أو في تسويق المنتجات الزراعية العائلية۔
كما أن القطاع الزراعي يسهم في الحد من عجز ميزان المدفوعات، والحفاظ على احتياطيات البنك المركزي من العملات الأجنبية. ويشكل القطاع الزراعي أهمية خاصة من الناحية الاجتماعية، في الحد من هجرة العمالة من الريف إلى المدن، إذ تشكل الزراعة القاعدة الاقتصادية للتنمية الشاملة في الريف من خلال توفير فرص العمل والدخل في الزراعة، والصناعة الزراعية المرتبطة بالإنتاج الزراعي، مما يحول دون انتقالهم للمدن ليشكلوا مصدر ضغط على الخدمات ويتحولوا إلى بؤر فقر، الأمر الذي يزيد من معدلات البطالة.
تبلغ مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في الدول العربية حوالي 197 مليون هكتار، في حين قدرت المساحة المستغلة بنحو 75.1 مليون هكتار عام 2019، أي بنسبة 38.1 % من الأراضي الصالحة للزراعة، زرع منها فعليا نحو 46.4 مليون هكتار، بينما تركت المساحة المتبقية البالغة 28.7 مليون هكتار دون استغلال لاستعادة حيويتها وخصوصيتها، إضافة إلى ضعف الإمكانيات لاستغلالها في بعض الدول العربية. وخاصة محدودية الموارد المائية المتاحة، وعدم استخدام التقنيات الزراعية الحديثة.
بلغت مساحة الأراضي التي زرعت بالمحاصيل الموسمية حوالي 65 مليون هكتار في عام 2019، في حين بلغت مساحة الأراضي الزراعية المستثمرة في زراعة المحاصيل المستديمة نحو 10.1 مليون هكتار.
وبلغت مساحة الأراضي الزراعية المطرية حوالي 26.1 مليون هكتار أي بنسبة 40.2 % من مساحة الأراضي الزراعية الموسمية، بينما بلغت مساحة الزراعة المروية من الأراضي الزراعية الموسمية في الدول العربية حوالي10.2 مليون هكتار أي بنسبة 22 % من اجمالي مساحة الأراضي المزروعة فعليا و 13.6 % من إجمالي مساحة الأراضي الزراعية في عام 2019.
بلغت مساهمة الزراعة في الناتج المحلي للدول العربية حوالي 4.8 % عام 2019. فهي نسبة متواضعة مقارنة مع الإمكانيات المتاحة واحتياجات الوطن العربي، ينبغي العمل على زيادة الاهتمام بالزراعة في هذه المرحلة بالذات، إذ يشهد العالم ارتفاع أسعار الغذاء بسبب الحروب والجفاف والتصحر والانحباس الحراري الناجم عن تلوث البيئة من قبل الدول الصناعية الكبرى، إن معالجة موضوع الأمن الغذائي تحتاج إلى استراتيجية تنموية عربية، حيث تقدر مساحات الأراضي الصالحة للزراعة وغير المستغلة في الدول العربية حوالي 62 % من مجموع مساحة الأراضي الصالحة للزراعة، وهناك مجالات لرفع كفاءة استغلال وزيادة مساحة الأراضي من خلال التكثيف المحصولي وزيادة إنتاجية وحدة المساحة وتوفير المياه. ويتطلب التوسع الزراعي الأفقي في الأراضي الزراعية إنشاء المشاريع الكبيرة لاستصلاح الأراضي، وتوفير البنى التحتية وإنشاء الطرق الزراعية وشبكات الري الحديثة. ويعتبر التوسع الزراعي الرأسي، الذي يعتمد على زيادة إنتاجية وحدة المساحة هو الأكثر واقعية نظرا لعائده ومردوده السريع، ولتلبية حاجات صغار المزارعين، وهذا يقودنا الى الاهتمام بتطوير الموارد المائية. حيث تعاني معظم الدول العربية من ندرة مياه شديدة بسبب شحة الأمطار، إذ لم يتجاوز متوسط حصة الفرد من المياه المتجددة حوالي 650 م3 سنويا في عام 2020، متراوحا بين 5 م3 في الكويت و2472 م3 في موريتانيا. وتعتبر ثلاث عشرة دولة عربية منها دول مجلس التعاون الخليجي واليمن والأردن وفلسطين وجيبوتي والجزائر وليبيا وتونس، من دول الندرة المطلقة للمياه، و3 دول عربية تقل فيها حصة الفرد عن 500 م3 سنويا بينما تعتبر ست دول، وهي الصومال ولبنان وسورية ومصر والسودان والمغرب، من دول الندرة المائية التي تتراوح حصة الفرد فيها بين 500 – 1000 م3 سنويا. ولم تزد حصة الفرد عن حد الندرة المائية 1000 م3 سنويا إلا في ثلاث دول فقط وهي العراق وموريتانيا وجزر القُمر.
يعد الترابط القوي بين المياه والطاقة والأمن الغذائي من أبرز سمات قطاع الزراعة والمياه في العديد من الدول العربية حيث تحظى هذه الدول بوفر في مصادر الطاقة فيما تعاني من شح في المياه ومن فجوة غذائية كبيرة. ويدفع شح المياه بالمنطقة نحو الاعتماد على استيراد كميات كبيرة من السلع الغذائية، هي في جوهرها تغطية للعجز المائي بما تمثله من مياه افتراضية. ففي عام 2019، بلغت كمية الواردات الغذائية حوالي 121 مليون طن متري من المنتجات النباتية والحيوانية تمثل حوالي 344 مليار م3 من المياه الافتراضية.
كما دفع شح المياه العديد من الدول العربية، نحو التوسع في تحلية مياه البحر لتلبية حاجات الشرب والتنمية الحضرية. ففي الفترة بين عامي 2006 – 2020، نمت حصة المياه العذبة المنتجة عن طريق التحلية من حوالي 3 % من إجمالي المياه التقليدية المستغلة إلى حوالي 10%.
بلغت نسبة العاملين في الزراعة حوالي 17.8 % عام 2018، من إجمالي العمالة العربية مقابل24.1 %عام 2010، ويعود سبب هذا التراجع إلى هجرة القوى العاملة من القطاع الزراعي إلى القطاعات الأخرى التي أصبحت مراكز جذب لأبناء الريف لتحسين أوضاعهم المعيشية، وارتفعت الصادرات الزراعية بنسبة 1.8 % عام 2018، لتبلغ قيمتها حوالي 29.8 مليار دولار، كما حافظت الواردات الزراعية على مستوى متقارب مع العام السابق حيث بلغت حوالي 92 مليار دولار. يعود سبب ذلك إلى انخفاض الطلب على بعض السلع الزراعية بسبب الأحداث الداخلية في بعض الدول العربية، وانخفاض الأسعار العالمية لبعض المنتجات الزراعية في المحصلة، بلغ العجز في الميزان التجاري الزراعي حوالي 62.2 مليار دولار عام 2018.
القطاع الصناعي
يقف العالم على أعتاب مرحلة جديدة عنوانها الثورة الصناعية الرابعة، ثورة الروبوتات والذكاء الاصطناعي، والسيارات والطائرات الموجهة، والاستخدامات الواسعة لتكنولوجيا المعلومات، وثورة النانو، ولم يكن باستطاعة العالم توظيف الخلايا الشمسية وتصنيع بطاريات الهيدروجين لولا تلك القفزة التكنولوجية التي سخرتها تكنولوجيا النانو في مجال توليد الطاقة، التي تتميز بدمج التقنيات التي تزيل الخطوط الفاصلة بين المجالات المادية والرقمية والبيولوجية. ويتميز هذا الاختراق التكنولوجي في عدد من المجالات، بما في ذلك الروبوتات، والذكاء الاصطناعي، والحوسبة، والتكنولوجيا الحيوية، والإنترنت والطباعة ثلاثية الأبعاد.
لقد تشكلت الدول المتقدمة على خلفية الثورة الصناعية والاستخدام الواسع للآلات، وتراكم رأس المال. وبلغت الثورة الصناعية ذروتها في إنتاج وسائل الإنتاج. ومع تمركز رأس المال قُوضت المؤسسات الصغيرة، إذ أخْلًت المنشآت الحرفية الفردية مكانها للمعامل المزودة بالآلات الحديثة، كما أدى ذلك إلى انفصال الصناعة عن الزراعة، واتساع المدن، واستطاعت البلدان المتقدمة تحويل اقتصاداتها من اقتصادات رعوية زراعيّة إلى اقتصادات صناعيّة متطوّرة ومتقدمة، فاستثمرت أفضل وسائل التكنولوجيا، لتوفير السلع الاستهلاكية.
يعتبر قطاع الصناعة من أهم القطاعات الاقتصادية في الدولة، فهو يشكل العمود الفقري للاقتصاد الوطني والدعامة الرئيسية للدولة. ويرفد احتياطيات البلاد من العملات الأجنبية، ويعتبر من أهم مصادر ميزان المدفوعات. كما أن تطور الصناعة يعني تطور القوى المنتجة، واستثمار الموارد البشرية وتوفير فرص العمل، وتوطين التكنولوجيا، وتوفير الاحتياجات الأساسية للسكان. إن التطور الصناعي يرافقه تطور علمي وثقافي وسلوك حضاري لا يمكن التقليل من أهميته. بلغ الناتج الإجمالي لقطاع الصناعة، في الدول العربية حوالي 968 مليار دولار في عام 2019، مقارنة بحوالي 1009.9 مليار دولار عام 2018، يعزى ذلك إلى انخفاض أسعار النفط والغاز وبتراجع بلغ حوالي 4.1 %. بلغت القيمة المضافة للصناعات الاستخراجية حوالي 684.8 مليار دولار عام 2019، وبتراجع نسبته نحو 6.1 % بالمقارنة مع عام 2018، يُعزى ذلك إلى انخفاض أسعار النفط والغاز في الأسواق العالمية حيث بلغ متوسط سعر برميل النفط حوالي 64 دولارا عام 2019 مقابل 69.8 دولار عام 2018.
بلغت القيمة المضافة للصناعات التحويلية العربية حوالي 283.2 مليار دولار عام 2019، مقارنة بحوالي 280.9 مليار دولار عام 2018، وسجلت أعلاها في السعودية، ومصر، والإمارات، والمغرب وقطر. ساهمت الصناعات الاستخراجية بحوالي 25 % عام 2019، من الناتج المحلي الإجمالي العربي، في المقابل، ساهمت الصناعات التحويلية بحوالي 10.3 % من الناتج المحلي الإجمالي. وبذلك بلغ مساهمة قطاع الصناعة بشقيه الاستخراجي والتحويلي 35.3 % وبلغت نسبة مساهمة القطاع الزراعي 4.9 % من الناتج المحلي الاجمالي للدول العربية عام 2019، وبذاك تراجعت مساهمة قطاعات الإنتاج السلعي إلى حوالي 49 % من الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية في العام 2019، وواصلت تراجعها عام 2020، لتصل إلى حوالي 43.7% منها 5.7 % حصة القطاع الزراعي، واستأثر قطاع الخدمات بحوالي 55 % بالمقارنة مع 50.2 % عام2019.
تأثر أداء الصناعة العربية في عام 2019 بانخفاض الطلب على النفط والغاز الطبيعي نتيجة تباطؤ نمو الاقتصاد، حيث جاء معدل نمو الصناعات الاستخراجية سالبا، وتراجعت حصة قطاع الصناعات الاستخراجية من الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية في عام 2020، إلى حوالي 17.3 % بالمقارنة مع25 % عام 2019، بسبب انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية وتراجع كميات إنتاجها، نتيجة جائحة الكورونا، وكان قطاع الصناعات الاستخراجية وقطاع التجارة والمطاعم والفنادق من أكثر القطاعات تضررا بالجائحة. كما تراجعت بنود الإنفاق الرئيسة خلال عام 2020، في معظم الدول العربية، وخاصة الاستهلاك العائلي والاستثمار، كما تأثر أداء الصادرات العربية من السلع والخدمات، نتيجة انخفاض الطلب العالمي على مختلف السلع وخاصة النفط المرتبط بشكل رئيس بتأثيرات الجائحة على حركة التجارة الدولية.
تفاقم الأزمة الرأسمالية يوفر مناخا دوليا مناسبا للتنمية
شهد الاقتصاد العالمي في عام 2019 قبل جائحة كورونا؛ تباطؤ في الطلب الكلي، فضلا عن تأثر سلاسل التوريد العالمية في ظل التوت ا رت التجارية ما بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، ورغم السياسات النقدية التوسعية التي تبناھا مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، في انعاش الاقتصاد ال أ رسمالي، – حيث قام بثلاث تخفيضات في أسعار الفائدة- وتحفيز النشاط الاقتصادي، وتعزيز الاستهلاك المحلي. إلا أن هذه الإجراءات لم تفلح في انعاش الاقتصاد الذي تراجع إلى 2.9 %عام 2019، مقابل 3 ۔ 6%عام 2018، كما ألقت الأزمة الأوكرانية – الروسية بظلالها على الاقتصاد العالمي، والتي جاءت بعد صدمة جائحة كورونا؛ مما عمق الأزمة الرأسمالية التي تجلت مظاهرها بارتفاع معدلات التضخم وتباطؤ النمو الاقتصادي، حيث أسهم بارتفاع أسعار الطاقة والغذاء والمعادن الصناعية. فقد أظهرت البيانات الاميركية استمرار تسارع التضخم في الولايات المتحدة، ليبلغ مستوى قياسيا جديدا على مدى أربعة عقود، وصل الى حوالي 8 .% وقد جاء قرار البنك المركزي الفيدرالي الأميركي برفع سعر الفائدة 0.5 % في أكبر زيادة حصلت منذ 22عاما كمحاولة لكبح جماح التضخم.
علما أن التحفيز المالي والعقوبات المفروضة على روسيا تفضي إلى تغذية التضخم، وافشال جهود السياسات النقدية. وستصبح الحملة التي تنظمها البنوك المركزية لترويض التضخم متعارضة مع السياسات التيسيرية، نعم هدفين متعارضين. واضح أن معركة الولايات المتحدة مع روسيا هي معركة مصيرية بالنسبة لها، فالنظام العالمي بعد هذه المعركة ليس كما قبلها.
إن المتغيرات الدولية التي يشهدها العالم، تمهد السبيل نحو الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب، وإنهاء الأحادية القطبية بعد ثلاثة عقود من تفرد الولايات المتحدة الأميركية، وفرض غطرستها على العالم، فالحملة الكونية التي تشنها الولايات المتحدة على روسيا؛ تعكس حجم الأخطار الحقيقية التي تهدد السياسات النقدية والمالية والاقتصادية للولايات المتحدة، وتفتح أفاقا جديدة أمام الدول النامية وفي عدادها البلدان العربية، في التحرر من التبعية والتخلف، فالوطن العربي يعتبر الأكثر تضررا من تفرد الولايات المتحدة في الاحادية القطبية، فقد تعرضت العراق وليبيا وسوريا واليمن إضافة إلى أفغانستان للغزو المباشر والتدمير، بعد إطلاق العنان لفرق الموت التي بدأت بعصابات “بلاك ووتر” وتطورت بتنظيم “النصرة وداعش” وغيرها من الفصائل الظلامية التكفيرية، مستغلة التحركات الشعبية في عدد من البلدان العربية الرافضة للاستبداد والاضطهاد والفساد؛ فوضعت الخطط لتدريب الإرهابيين وتسليحهم ونقل المرتزقة وشراء الذمم، مستعينة بالضخ الاعلامي الموجه، وإنفاق مئات مليارات الدولارات من أموال الشعوب العربية، وإدخال المنطقة العربية في أتون حرب، غير عابئين بالنتائج المدمرة.
كما تسارعت الإجراءات والخطوات الأمريكية لدعم السياسات التوسعية للعدو الصهيوني، فتم الإعلان عن صفقة القرن، والاعتراف بالقدس عاصمة للكيان، وشرعنة الاستيطان من جانب الإدارة الأمريكية وإقرار قانون الدولة اليهودية. ولعل سباق عدد من دول الخليج بممارسة سياسة التطبيع مع العدو الصهيوني تكشف عن الاسباب الحقيقية لانخراطهم في المشروع الاميركي – الصهيوني بتدمير العراق وسوريا وليبيا واليمن.
ومن جهة أخرى؛ فإن تعاظم الاقتصاد الصيني، دفع الولايات المتحدة لتأجيج حرب تجارية للحد من الانفتاح على الاقتصاد العالمي، إن الإجراءات الحمائية التي بدأت الولايات المتحدة في تنفيذها، تعبر عن فشل العولمة الرأسمالية أمام تعاظم تنافسية الاقتصاد الصيني، وتعكس عمق الأزمة الرأسمالية التي تعيشها الولايات المتحدة. فقد أصبحت أسيا تنتج وأميركا تستهلك… أسيا تقرض وأميركا تقترض… تبدل ملحوظ بالمشهد الاقتصادي الكولونيالي؛ بعد نجاح عدد من البلدان النامية في تحطيم “التقسيم الاستعماري للعمل” الذي كان سائدا، “الدول المتقدمة تنتج والدول النامية تستهلك”.
فالسياسة التي صُمّمت لفتح أسواق الدول النامية للمنتجات الغربية، أصبحت تشكل عبئا على الولايات المتحدة، إذ بدأت بالتمرد على منظمة التجارة العالمية والعودة إلى السياسة الحمائية بسبب الضرر الاقتصادي الذي طالها من انسياب السلع الأسيوية، لقد وفرت الصين مناخا سياسيا وشراكة حقيقية للدول النامية التي تتمتع بإرادة سياسية لبناء اقتصاد وطني، فالصين معنية بالاستفادة من فوائضها المالية الضخمة، بتمويل مشاريع استثمارية وتقديم الخبرات، بقدر ما الدول الفقيرة معنية بتحقيق تنمية اقتصادية. ويعتبر الاقتصاد الصيني نموذجا ثالثا في العالم، فهو لا ينتمي للاقتصاد الرأسمالي الليبرالي المعروف في الدول الغربية، كما أنه ليس نظاما اشتراكيا ضمن النماذج التي عرفت في العالم، فقد حافظت الصين خلال انفتاحها على الاقتصاد العالمي على اقتصاد موجه، وقطاع عام يتحكم بمعظم الموارد الوطنية للصين، ومع ذلك أُطلقت المبادرات الفردية والخاصة، وبددت المزاعم المعادية لدور الدولة في الاقتصاد.
فالصين مؤهلة سياسيا واقتصاديا وماليا وتقنيا للقيام ببناء منظومة صناعية مستقلة وفعالة في الدول النامية بدلا من الخضوع للسياسات الإمبريالية وشروط نادي المانحين خاصة أن الصين رفضت الانضمام إلى هذا النادي، ورفضت نمط المعونة المشروطة، وتعلن الصين احترا مها لحرية اختيار الدول لنمط تنميتها الاقتصادية. لقد حدد نادي المانحين شروط المعونة الدولية في إعلان باريس 2005، بمعرفة منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، ثم فرضت على المستفيدين، وتشمل بصفة عامة التقيد بمبادئ العولمة الليبرالية، أحيانا بشكل صريح، مثل فتح الأسواق، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وأحيانا بشكل ضمني، مثل احترام قواعد منظمة التجارة العالمية. والبلد الذي يرفض هذه الاشتراطات يفقد الحق في المعونة من بلدان الشمال (الثالوث المكون من الولايات المتحدة وأوروبا واليابان). وتشدد المراكز الرأسمالية إجراءاتها على البلدان الفقيرة لإرغامها على الخضوع للشروط الليبرالية حول ما يسمى المعونة الدولية التي تعتبر ضرورية لبقاء البلدان الأقل نموا (وهو وصف الأمم المتحدة للكثير من البلدان الإفريقية).
في هذا السياق، من المفيد مراجعة مرحلة الستينات من القرن الماضي – لأخذ العبر والدروس – حيث شهدت تلك البلدان تجربة غير اعتيادية في مجال التنمية والتطور الصناعي والزراعي، أثمرت تقدما في العديد من القطاعات الإنتاجية والاجتماعية. لقد استفادت بعض الدول التي نالت استقلالها السياسي من علاقتها بالاتحاد السوفيتي، في ظروف الحرب الباردة التي كانت سائدة آنذاك، وحصلت على دعم شامل سياسي واقتصادي، مكّنها من إنشاء قاعدة مادية اقتصادية، حقّقت مشروعا تنمويا شاملا، وتعتبر مصر في مقدمة هذه البلدان، قبل أن ترتد سياسيا وتتراجع اقتصاديا. فقد تمكنت مصر من بناء اقتصاد وطني، وكانت في طليعة الدول النامية التي احتلت لاحقا موقعا متقدما في الاقتصاد العالمي؛ تقدمت مصر آنذاك على دول مثل (كوريا الجنوبية وتايلاند وإندونيسيا وماليزيا).
لقد أنشأت مصر أكبر قاعدة صناعية بين الدول النامية؛ إذ بلغ عدد المصانع التي أُنشئت في عهد الرئيس الراحل عبد الناصر 1200 مصنعا منها صناعات ثقيلة وتحويلية واستراتيجية، وبُني السد العالي أعظم مشروع هندسي وتنموي في القرن العشرين. وقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي المصري نحو 5.1 مليار دولار بعد إنجاز خطتها الاقتصادية الأولى سنة 1965، بينما كان حجم الاقتصاد السعودي أقل من النصف، وقدر بنحو 2.3 مليار دولار بنفس السنة. وبلغ الناتج المحلي الإجمالي لكل من تايلاند وإندونيسيا وماليزيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة بالترتيب نحو 4390، 3840، 3130، 3000، 970 مليون دولار في السنة المذكورة. أي أن هذه الدول كانت خلف مصر في حجم الناتج المحلى الإجمالي، ومن المعروف أن البرنامج التنموي المصري لم ينحصر في البنية الاقتصادية؛ فقد شمل الإصلاح الزراعي، وإعادة توزيع الدخل بما سمح لفئات الشعب الاستفادة من عائدات التنمية.
وفي الختام؛ أود التأكيد؛ أن تحقيق تنمية اقتصادية مستقلة تضع الوطن العربي في مقدمة معظم بلدان العالم حيث سيحتل الاقتصاد العربي الترتيب الخامس بعد الولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا، وأن مخرجات المشروع التنموي ستسهم بحل العديد من القضايا التي تواجه الأمة العربية وفي مقدمتها، تحقيق الأمن الغذائي والاعتماد على الذات، وتحقيق الأهداف النبيلة للأمة العربية بتحقيق الأمن القومي وتحرير الأراضي العربية المحتلة من الامبريالية والصهيوني.
دمتم ودام نضالكم من أجل تحقيق الأهداف النبيلة للامة العربية.
* المصادر:
– برنامج الامم المتحدة الانمائي، تقرير التنمية البشرية 2019.
أهداف التنمية المستدامة (الأمم المتحدة عام 2015).
– التقرير الاقتصادي العربي الموحد 2020.
– التقرير الاقتصادي العربي الموحد 2021.
– المنظمة العربية للتنمية الزراعية 2021.
– مركز البيئة والتنمية للدول العربية وأوروبا، التقرير الثالث لحالة المياه في الدول العربية 2019.
– أحمد سيد النجار، مؤشرات التنمية المقارنة، جريدة الأهرام، 10 / 8 / 2015 ، العدد 46998.
– سمير أمين، مقالة في جريدة الأهرام، 24 آذار 2015، العدد 46859.
– الأزمة المالية والاقتصادية أسباب ونتائج فهمي الكتوت.
للاطلاع على الورقة البحثية كاملة