عام

ثقافة الهزيمة تستميت في حرمان الأمة من لحظة عزة وكرامة

بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري

نقلًا عن موقع عُمان

اعترف الآن بأنني حاربت معركة خاسرة في الثلاثين عاما الأخيرة من عمري كنت أشكك فيها جزئيا بصحة المقولة التي ترى أن عصر «الرخ» الأمريكي الذي بسط جناحه القاتم على المنطقة منذ زيارة كيسنجر الشهيرة قصر الطاهرة في القاهرة ١٩٧٣ قد ضخ في مسام نخبة من الأمة ثقافة هزيمة وخضوع سرت مجرى الدم في العروق.

منعتُ عقلي سنين من أن يتبع قلبي وهو يصدق زرقاء يمامة الأمة من شعرائها مثل نزار قباني وأمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي ومحمود درويش «عن عرب أطاعوا رومهم.. وباعوا روحهم.. عن عرب وضاعوا»..

حتى جاءت بشرى طوفان الأقصى وما مثلته من لحظة شعور بالعزة والكرامة اجتاحت الأرض والشعوب العربية وهم يرون كيف تمكن بضع مئات من المقاومين يرتدون سراويل رياضية وشباشب سحق أسطورة إسرائيل التي لا تقهر وفضح هشاشة المشروع الاستيطاني الأخلاقي العنصري جيشا وسياسة ومجتمعا.

فإذا بهذه النخب تأبى مثل النظام العربي الرسمي أن تتمرد على خمودها واستكانتها وتستكثر على نفسها وعلينا كشعوب أن نتنفس أوكسجين الكرامة الذي اختفى أو كاد من الهواء العربي نصف قرن بأكمله.

ولعمري ما وجدت بعض نخبة منكسرة ومنحنية وخاضعة هرب الدم من عروقها واستطابت الخنوع على الشموخ، والذلة على العزة كما وجدت في بعض نخب أمتنا العربية. هذه الأمة ويا للمفارقة هي الأمة التي لن تجد لدى أمة أخرى في تراثها الإنساني وأمثالها وشعرها ونثرها وغنائها اعتزازا بالكرامة وتفاخرا بالشجاعة مثلها.

في مسيرة المائة يوم من حرب حلف الأطلسي وأمريكا وإسرائيل على فئة من المقاومين قليلة العدد والعدة ومحشورة في جيب من الأرض محاصر من البحر ومن جميع الجهات.. أعمى الله قلوب هؤلاء عن رؤية ما يراه جنرالات إسرائيل وكتابها ومحللوها المتعصبون صهيونيا وليس فقط بعض المنصفين الذين يعدون على أصابع اليد في مجتمع صنعه التطرف والتعصب اليميني العنصري على عينيه.

لو عدنا بشكل عكسي من الأحدث للأقدم في مسيرة الحرب سنجد أن كتاب الهزيمة العرب تلقفوا قيام إسرائيل باغتيال القائد الشهيد صالح العاروري بفرح مكتوم فاق فرح العدو وزعموا أن هذا دليل على كفاءة مجتمع المخابرات الإسرائيلية بفروعه الثلاثة «الموساد، والشاباك، وأمان» وأنه دليل على تعافي المؤسسة الأمنية الصهيونية من صدمة ٧ أكتوبر وأن إسرائيل عبر هذه الأجهزة الأمنية قد استعادت قوة الردع وأنها أصبحت قادرة على عمليات نوعية مخيفة ترعب به جوارها العربي والإقليمي. عمليات تمتد من سوريا إلى لبنان ومن لبنان إلى إيران.

لا يقرأ المنهزمون من الداخل ما يكتبه ويصرح به جنرالات ورؤساء وزراء سابقون لإسرائيل عن إننا هزمنا في هذه الحرب مهما حصل، وأن إسرائيل لن تستطيع أبدا تحقيق أهدافها المعلنة من الحرب. يغضون الطرف عما كتبه محللون عسكريون أمريكيون عن أن فشل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في توقع هجوم طوفان الأقصى هو واحد من أكبر نماذج الفشل وعدم الكفاءة في التاريخ العسكري الحديث وأن إحباط وخيبة أمل الأمريكيين في حليفهم الصغير ووكيل مصالحهم في المنطقة من هذا الانهيار الأمني ما زالت أصداؤها تتردد في البنتاجون عاجزة عن تقديم جواب مقنع. يصمون آذانهم عن صراخ الجنود الإسرائيليين في غزة من أن الفشل الاستخباراتي ليس من الماضي فحسب بل هو فعل مستمر ويتحدث الجنود في هذا السياق عن الفجوة الكبيرة الحالية بين معلومات «أمان» الخاطئة وحقائق الحرب على الأرض مع المقاومة ويعزون لهذا الفشل الأمني جزءا مهما من ارتفاع أعداد القتلى والجرحى في صفوفهم. لا يقرأون تعليق الجنرال الإسرائيلي عن عدم جدوى الاغتيالات في كسر المقاومة فيقول «إن قتل العاروري أو غيره مثل عملية جز العشب ما أن تنتهي منه حتى ينمو من جديد».

لا يستوعبون خبرة تاريخ الاغتيالات الإسرائيلية للقيادات الفلسطينية في الأربعين سنة الماضية والتي لم تفض في كل مرة إلا إلى تطور من اثنين إما إلى ولادة جيل جديد من القادة أكثر عداء وأكثر حنكة أو إلى التسبب في رد فعل يمثل ضربة مؤلمة لإسرائيل.

فعندما اغتالت من تمكنت منهم من قادة فتح رد عليهم أبو جهاد بالانتفاضة الأولى، اغتالوا أبو جهاد فقامت الانتفاضة الثانية، اغتالوا أبو شنب وصلاح شحادة ويحيى عياش.. إلخ من قادة حماس العسكريين فظهر لهم السنوار وضيف ومروان عيسى.. اغتالوا أحمد ياسين والرنتيسي من القادة السياسيين فظهر هنية والعاروري وأبو مرزوق، اغتالوا في الشعبية أبو علي مصطفى فظهر سعادات واغتالوا الشقاقي في الجهاد فجاء لهم رمضان شلح.. إلخ.

انتبهوا لقتل العاروري وتغنوا بيد المخابرات الإسرائيلية الطويلة ولكنهم تعاموا عن رد فعل حزب الله انتقاما من اغتيال العاروري والذي دمر فيه الحزب جزءا رئيسيا لأهم مركز قيادة عسكري إسرائيلي في ميرون بشمال فلسطين المحتلة. يشمتون في حزب الله لاغتيال أحد قادته ووصول الطيران الإسرائيلي لبعض قواعده لكنهم يمرون مرورا عابرا على المغزى العسكري الخطير لوصول مدى نيران حزب الله لمدن الشمال الإسرائيلي مثل صفد وحيفا وغيرها.

يذرفون دموع التماسيح على ارتفاع ضحايا المدنيين في غزة الذي يقترب من مائة ألف شهيد ومفقود ومصاب ويلومون المقاومة على تهورها بهجوم ٧ أكتوبر ويتناسون – رغم الخلل المخيف في تسليح وحجم قوات العدو بتسليح وأعداد المقاومة -وصول عدد قتلى الجيش الإسرائيلي بيد المقاومة إلى نحو ٣٠٠٠ جندي وضابط وعدد المصابين إلى مايزيد عن ١١ ألف جريح نصفهم على الأقل باتوا معاقين إعاقة دائمة أو مؤقتة.

يردمون التراب على حقيقة أن إسرائيل جيشا وشرطة وقطعان مستوطنين قتلوا وأصابوا وسجنوا وهدموا بيوتا وسرقوا أراضي عشرات الألوف من الفلسطينيين في الضفة الغربية بعد أن نزعت سلاحها خلال الـ ٣٠ عاما التي تلت معاهدة أوسلو ولم تمنع عنهم الأذى سلطة تتوسل حماية دولية لم ولن تأتي. في المقابل لا يموت الناس في غزة وأياديهم مقيدة إذ يألم الإسرائيليون من غزة وفي غزة كما يألم الفلسطينيون ويخسرون أحباءهم كما يخسر الفلسطينيون أحباءهم وتوجعهم في نهاية اليوم هجمات مقاومة لا تتوسل حماية من أحد وإنما ترد الصاع صاعين.

ينكر هؤلاء على المقاومة أنها نجحت في تحقيق نصر من أي نوع ويقول الإسرائيليون إنه أكبر هزيمة وجودية منذ إعلان الدولة قبل ٧٥ عاما. لطمة وصدمة trauma حولت نحو ربع مليون من سكان مستعمراتها إلي نازحين وعشرات الألوف إلى مرضى بالهلع والرعب يخضعون إلى علاج نفسي.

يقولون إنه حوّل يوم إجازة وعيد «فرحة التوراة» إلى أسود يوم وأكبر جنازة في تاريخ إسرائيل. يقولون إن تقويم دولة إسرائيل سيقوم بما قبل ٧ اكتوبر وما بعد ٧ أكتوبر لكن المنهزمين العرب يتحدثون فقط عن اليوم التالي التي ستدمر فيه البنية العسكرية للمقاومة وتختفي فيه حماس والجهاد من الوجود.. هذا اليوم الذي لم ولن يأتي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock