هل لنسق القيم التي يتبناها مجتمع ما علاقة بتقدم أو تخلف هذا المجتمع؟ سؤال قديم متجدد شغل الباحثين، منذ وقت مبكر، يطرح بين فترة وأخري، في ثنايا محاولات تفسير انتقال النسق القيمي للمجتمع من حالة إلى حالة، وخاصة من التقليدية إلى الحداثة.
رصد القيم الموجودة في مجتمع ما؛ مؤشر مهم في الكشف عن المرحلة التي وصل إليها من تقدم على مختلف الاصعدة؛ بل إن عملية الرصد هذه يمكن أن تساعدنا فى التنبؤ مستقبلا، بالشكل الذي ستكون عليه المنظومة القيمية.
هذا ما تؤكده دراسة بعنوان “استشرافات النخبة المثقفة لمستقبل أنساق القيم الاجتماعية في مصر” الصادرة مؤخرا عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية.
وبحسب الدراسة فإن “…المشكلة الرئيسية في هذا الصدد، أن العديد من بلدان العالم النامي، سواء من تبنت النمط الغربي في التحديث والتنمية، أو تلك التي قررت الأخذ بسياسات الاعتماد على الذات تنمويا؛ لم تسجل نقلة نوعية على طريق التنمية الحقيقية، فالواقع يثبت بعد عقود من التجارب التنموية المتعددة – غياب الأنماط الإنتاجية الخالصة، التي تنتمي لرؤية اقتصادية وسياسية محددة، حيث نجد تعايشا بين عدة أنماط إنتاجية، لا هي بالتقليدية تماما أو الحديثة بشكل حاسم، وإنما هي هجين منهما.. وبالتالي تغيب الرؤية والاستراتيجية الواضحة، وهو الأمر الذي يفضي بدوره إلى وجود أنساق قيمية هجينة”.
وأضافت الدراسة “أن هناك قبولا في المجتمع المصري، بحالة التعايش بين التقليدية والحداثة، وفق قاعدة ليس كل ما هو تقليدي سيئا، وليس كل حداثي جيدا في المطلق، وبشكل عام فإن الأنساق القيمية في المجتمعات التقليدية ومنها مصر، تميل بشكل عام إلى التقليدية والمحافظة، وبالرغم من الجدل حول دور الدين في المجتمعات الحديثة، فقد لعب دورا مركزيا في إدارة دفة الأمور في المجتمع المصري، وبالتالي اصطبغت الممارسات السياسية والاجتماعية في الكثير من الأحيان بصبغة دينية، كذلك وعلى جانب اخر اكتسبت العديد من الخطابات والممارسات الدينية – صبغة براجماتية ونفعية لا تبتغي الجانب المقدس من الممارسة فقط؛ وإنما ابتغت أيضا الجانب الدنيوي”.
إلى أي مدى يمكن تغيير أو تحديث المنظومة القيمية التقليدية السائدة في المجتمع المصري؟ كان هذا واحدا من أهم الاسئلة التي سعى المشاركون في الدراسة إلى الإجابة عليها عبر استطلاع آراء النخبة المثقفة، حيث رأى نحو 62% من عينة المشاركين أنه من الصعوبة إلى حد كبير، تحديث هذه المنظومة القيمية، في حين أن 74% يرون أن بقاء هذه المنظومة دون تحديث؛ يعد أمرا غير مرغوب فيه بالنسبة لهم.
بلاشك فإن النتيجة السابقة، تشير بشكل واضح إلى المجهودات المضنية التي يجب أن تبذل من قبل جميع الفاعلين ذوي الصلة، وخاصة مؤسسات التنشئة الاجتماعية مثل: الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام، حيث يتطلب تحديث أي منظومة قيمية –خاصة إذا كانت تتمتع بجذور ضاربة في العمق– جهودا جبارة من كل مؤسسات المجتمع، وهو الأمر الذي يتطلب العمل المستمر لعدة أجيال.
وهناك نقطة بالغة الأهمية يجب لفت الانتباه إليها؛ وهى أن الفنون والآداب تتمتع بمنظومة قيمية مغايرة بحسب ما يراه 90% من عينة المثقفين المشاركين في الدراسة، والذين يؤكدون أنها تغرد دوما خارج السرب، وهو ما يجعلها أكثر قربا من القيم الحداثية، وهو ما يفسر الدور الكبير الذي تلعبه في عملية تنوير المجتمع.
وتذهب الدراسة إلى أن الأنساق القيمية المصرية تحوي ما هو تقليدي وماهو حداثي وإن كانت تميل بشكل أكبر إلى التقليدية بحكم التكوين والجوهر.
ويتفق 60% من المشاركين في الدراسة، على أن قيم المنظومة الرأسمالية في صيغتها الأكثر تطرفا، والمعروفة بالليبرالية الجديدة، والتي سادت منذ ثمانينات القرن الماضي، مركزة على الربح والتراكم والاستغلال والتفاوت الطبقي؛ تتعرض في السنوات الاخيرة إلى مراجعة ونقد على مستوى عالمي؛ لذا فهي قد تكون في طريقها نحو التغيير كليا أو جزئيا، وبناء عليه تعبر عينة النخبة المصرية عن اتفاقها مع مقولة فؤاد مرسي “الرأسمالية تجدد نفسها”.
ويتفق المشاركون في الدراسة على أن هذه المنظومة ستظل قائمة في الجوهر مع إجراء بعض التعديلات والإصلاحات التي تقتضيها التحولات التي تشهدها المجتمعات الحديثة.
وبحسب الدراسة فإن 96% من المشاركين يؤكدون أن الطبقات الشعبية أكثر ارتباطا وتبنيا لمنظومة القيم المحلية، وهو ما قد يرجع بصورة أساسية إلى عدم امتلاك هذه الطبقات للمقومات المادية والقدرات البشرية المعرفية للتواصل على مستوى عالمي.