رؤى

زهرة المدائن (17): القدس.. والحكومات الإسرائيلية

في إطار الحديث عن القدس والحكومات الإسرائيلية، فإن “الملمح الأساس” الذي يفرض نفسه، أن سياسة الحركة الصهيونية وجميع التنظيمات العسكرية وشبه العسكرية المنبثقة عنها، وسياسات الأحزاب والقوى السياسية الإسرائيلية الدينية والعلمانية المتطرفة والمعتدلة، وسياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، والرأي العام الإسرائيلي المحدد لإطار هذه السياسات تجاه القدس.

هذه السياسات ما هي في حقيقة الأمر إلا انعكاس لصورة القدس لدى التيار السياسي الصهيوني، المستندة إلى جملة من الأساطير اللاهوتية التي لا تصمد أمام معطيات وحقائق القانون الدولي المعاصر.

بل لا نغالي إذا قلنا إن صياغات الموقف الإسرائيلي من القدس، إنما تستند إلى معادلة رياضية، منسجمة مع ما خطط له زعماء الحركة الصهيونية الأوائل، على النحو التالي “القدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل”.

القدس والعقيدة الصهيونية

ومن ثم، فإن منطق الأحداث وتسلسلها لا يؤكد فقط قولنا الأخير هذا؛ ولكنه أيضا يشير إلى الدوافع الإسرائيلية في رفض جميع مشاريع الحلول التي لا تصب في صالح الاحتفاظ بالقدس كعاصمة موحدة وأبدية لها.. ويستوي في هذا الموقف المبدئي؛ اليمين واليسار، التطرف والاعتدال، الصقور والحمائم، حزب المعراخ (العمل) وتكتل الليكود، المتدينون والعلمانيون، الحكومات والأحزاب والرأي العام.

ولعل هذا ما يفسر التقاء مواقف جميع القوى المؤثرة في إسرائيل، وكذا الحكومات على اختلاف أصولها العقائدية واتجاهاتها السياسية، على رفض فكرة الدولة الفلسطينية، والاستعاضة عنها بكيان هو في نظر البعض (نتنياهو) أكثر من الحكم الذاتي، وفي نظر البعض الآخر حزب المعراخ “أقل من دولة”.. رغم أن كلًا منهما يعني الشيء نفسه، ولكن بتسميات مختلفة؛ الأمر الذي يعني اتفاق الائتلاف الحكومي والمعارضة حول هذه المسألة.

بنيامين نتنياهو
بنيامين نتنياهو

بل إن هناك تيارًا حكوميًا وسياسيًا إسرائيليًا ما زال يتطلع إلى الأردن “دولة بديلة للفلسطينيين” باعتبار أنهم يشكلون الأغلبية العظمى من سكانه.

والواقع، أن مثل هذا الالتقاء بين جميع القوى المؤثرة في إسرائيل –بما فيها الحكومات– يعود في ما يعود إليه، إلى أن التيار السياسي اليهودي/ الصهيوني الذي كانت له الغلبة في المؤتمر الصهيوني الأول (بازل 1897) كان قد جعل من القدس محور بنائه العقائدي.

وقد اعتمد في هذا على المكانة الروحية التي تتمتع بها القدس لدى اليهود، وذلك كأداة لتحقيق هدفه السياسي المتمثل في بناء الدولة اليهودية في فلسطين، باعتبارها حسب ذات الزعم شعب الله المختار.

والغريب أن هذا التيار قد تحقق له ما أراد جزئيًا بإعلان بن غوريون قيام الدولة العبرية، إسرائيل في 15 مايو 1948، خلافًا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة (رقم 181، لعام 1947) وكليًا من خلال امتداد هذه الدولة لتشمل كل فلسطين، في أعقاب حرب يونيو 1967، وضم القدس وتوحيدها، ثم إعلانها عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل، وذلك خلافًا لكل قرارات الشرعية الدولية المتمثلة بسلسلة من قرارات مجلس الأمن الخاصة بالأراضي العربية المحتلة على رأسها القرار 242 لعام 1967، والقرار 338 لعام 1973.

سيطرة الإسرائليين على القدس عام 1967
سيطرة الإسرائليين على القدس عام 1967

القدس والحكومات الإسرائيلية

ولعل في الاقتراب من الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة (مواقفها وسياساتها) من مدينة القدس ما يؤكد ذلك..

ـ بالنسبة إلى حكومة ديفيد بن غوريون (1949 ـ 1963) فإن أهم ما يميزها هو بن غورين نفسه.. العلماني الذي كان ينظر إلى القدس بالقدر الذي يخدم بناء الدولة اليهودية. لذلك انقلب على موافقة الزعامة اليهودية على قرار التقسيم، متخذًا من عدم موافقة العرب عليه مبررًا لاحتلال جزء من القدس في 11 ديسمبر1949، وهو الجزء الذي بات يعرف بالقدس الغربية.

ـ وبالنسبة إلى حكومة ليفي أشكول (1963 ـ 1969) فقد استمرت على نفس النهج السياسي، الذي اختطته الحكومة السابقة عليها، حكومة بن غوريون. وإذا كان هذا الأخير قد تمكنت قواته من احتلال الجزء الغربي من القدس، وتمكنت من تهويد هذا الجزء بالكامل خلال ثلاث عشرة سنة هي عمر الحكومة، وإعلان هذا الجزء عاصمة لإسرائيل؛ فقد تمكنت قوات ليفي أشكول من احتلال بقية القدس في 7 يونيو 1967، وتمكنت حكومته من إعلان القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل.

ـ بالنسبة إلى حكومة جولدا مائير (1969 ـ 1974) فقد كانت الحكومة الوحيدة التي شهدت أعنف هزيمة عسكرية، من جانب جيوش جارات إسرائيل العربيات (مصر خصوصًا).. إلا أنها، في الوقت نفسه، كانت الحكومة التي قامت بالحفريات تحت أرض المسجد الأقصى بحثًا عن “الهيكل” ناهيك عن المحاولة التي جرت في أيامها؛ نعني محاولة حرق المسجد الأقصى في 21 أغسطس 1969.

جولدا مائير
جولدا مائير

ـ بالنسبة إلى حكومة إسحاق رابين الأولى (1974 ـ 1977) فيكفي أن نشير هنا إلى رئيس الحكومة نفسه، أي رابين الذي قام بمحاولات كثيرة للاستيلاء على القدس الغربية عامي 1947 ـ 1948، حتى تمكنت قواته من فتح طريق القدس ـ تل أبيب، وإجبار آلاف الفلسطينيين على النزوح من ديارهم في القدس الغربية. أيضًا كان يفاخر دومًا بقيادته للقوات الإسرائيلية التي احتلت الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية عام 1967. أضف إلى ذلك أن هذه الحكومة، –حكومة رابين– كانت هي الحكومة التي أعلنت مشروع القدس الكبرى، المعروفة أبعاده للكافة.

ـ بالنسبة إلى حكومة مناحيم بيغن (1977 ـ 1985) فهذه الحكومة وإن كانت أول حكومة إسرائيلية توقع اتفاقًا للسلام أو “التسوية” بالأصح، مع الحكومة المصرية في عام 1978، فهي أيضا الحكومة التي أصدرت في 30 يونيو 1977، مرسومًا يقضي بأن تكون القدس مدينة واحدة وغير قابلة للتقسيم، وأنها عاصمة لدولة إسرائيل. ناهيك عن أنها الحكومة التي شهدت ـ بناء على مرسومها هذا ـ القانون الذي أصدره الكنيست، الذي يتيح تهويد القدس وجعلها عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل في 30 يوليو 1980.

ـ بالنسبة إلى الحكومة ثنائية الرأس “شامير ـ بيريز” (1985 ـ 1991) فهي الحكومة التي اتسمت بمواصلة مشروع القدس الكبرى، وببناء المزيد من المستوطنات، واستمرارها في سياسات تهويد القدس؛ وذلك بهدف إخراج القدس من جدول أعمال المفاوضات، وإلزام الطرف العربي بالاعتراف بسياسة الأمر الواقع عند بحث مسألة القدس في مفاوضات الوضع النهائي. أي إجبار الطرف الفلسطيني والعربي، أو محاولة إجباره، على الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.

ـ بالنسبة إلى حكومة “إسحاق رابين” (الثانية: 1992 ـ  1996)؛ فهي الحكومة التي وإن كانت قد شهدت إعلان المبادئ الفلسطيني ـ الإسرائيلي الذي تضمن اعتراف كل منهما بالآخر؛ إلا أنها في الوقت نفسه كانت الحكومة الإسرائيلية الوحيدة التي انتقلت بقضية القدس: من قضية دولية إلى مجرد قضية إقليمية يجري بشأنها مفاوضات.. مؤجلة.

ـ بالنسبة إلى حكومتي “بنيامين نتنياهو” و”ايهود باراك” (1996 ـ 2000) فهما الحكومتان اللتان نجحتا في تأجيل ملف القدس بعيدا عن المفاوضات، إلى الدرجة التي بات معها المرء يشعر وكأن القدس لا تعني أحدا من العرب أو المسلمين.

وبعد أكثر من عقدين كاملين من القرن الواحد والعشرين الحالي، تتوجه قضية القدس والقضية الفلسطينية بشكل عام، إلى مسار يكتنفه الغموض السياسي والاستراتيجي، في ظل كافة الظروف والملابسات التي شهدتها المنطقة، طوال السنوات العشرين الماضية… يتبع.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock