ثقافة

مشاعل إسلامية (24): ابن الهيثم.. و”المناظر”

الحسن بن الهيثم، من أكبر العلماء العرب في العصر الذهبي للنهضة العربية. ولد في البصرة وتوفي في القاهرة عام 430 هـ.  وضع ابن الهيثم أكثر من مائتي مقال ورسالة وكتاب، أكثرها أهمية كتاب “المناظر” الذي وضع فيه أسس علم الضوء الحديث، وصحح مفاهيم الضوء عند الإغريق.. وقد عُرِف ابن الهيثم في أوروبا، حيث كانت نظرياته في علم الضوء (المناظر، البصريات) أساسًا بنى عليه جاليليو ومن سبقه، ما عرفته أوروبا من ثورة في العلم التجريبي، وفي الضوء خاصة.

حاول ابن الهيثم تفسير كيفية الإبصار، تفسيرًا يتجاوز به الخلاف الذي كان ناشبًا بين النظريات اليونانية المتضاربة في الموضوع، والتي كان يتقاسمها مذهبان: مذهب يقول بانطلاق شعاع من البصر إلى الأشياء وبذلك يتم الإبصار –كان بطليموس أول من اعتمد هذا المبدأ في القرن الثاني الميلادي–  ومذهب آخر غامض يقول بانتشار صور المبصرات وانتقالها إلى العين.

نظرية الانتقال الضوئي

ولعل ابن الهيثم، كان أول عالم يرفض نظرية الضوء التي تدعي الحركة من العين إلى الأشياء الخارجية، كما هاجم نظرية الفيض البصري؛ وذكر أن الضوء واللون هما المحددان الأساسيان للرؤية. كان ابن الهيثم أيضا هو أول من أشار إلى انتقال الضوء في الأوساط الشفافة، مثل الهواء والماء والزجاج. ناهيك عن أنه قد تكلم في سرعة الضوء، ووضع رسما تشريحيا للعين لا يختلف كثيرا عن الرسم الحالي لها.

بيد أن الأمر الواجب الالتفات إليه هنا، أن ابن الهيثم عندما أراد تفسير كيفية الإبصار تفسيرا يتجاوز به المذهبين السائدين آنذاك، أراد ـ بداية ـ أن يفصل في أمر خلافهما، بفحص المذهبين معا فحصا نقديا علميا.

ولعل ذلك ما يتبدى بوضوح، في مقولته التالية: “ولما كان ذلك كذلك، وكانت حقيقة هذا المعنى ملتبسة مع إطراد الخلاف بين أهل النظر المتحققين بالبحث عنه على طول الدهر، وكيفية الإبصار غير متيقنة، رأينا أن نصرف الاهتمام إلى هذا المعنى بغاية الإمكان، ونخلص العناية به ونتأمله، ونوقع الجد في البحث عن حقيقته، ونستأنف النظر في مبادئه ومقدماته، ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات وتصفح أحوال المبصرات وتمييز خواص الجزيئات، ونلتقط باستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار وما هو مطرد لا يتغير، وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس، ثم نترقى في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب مع انتقاء المقدمات والتحفظ في النتائج، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقريه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء”.

هذا النص الطويل لابن الهيثم، الذي أورده المفكر المغربي محمد عابد الجابري نقلا عن كتاب “الحسن بن الهيثم بحوثه وكشوفه البصرية” لمصطفى نظيف؛ يؤكد علي مجموعة من الأسس التي يقوم عليها العلم، أي علم: استئناف النظر في المبادئ والمقدمات، الاستقراء، التصفح، تمييز خواص الجزيئات، السير بالتدريج في البحث والمقاييس، مع انتقاء المقدمات والتحفظ في النتائج، وطلب الحق وتجنب التعصب للآراء.

منظور ابن الهيثم

ولعلنا لا نغالي إذا قلنا إن هذه الأسس نفسها كانت المرتكز الذي قام عليه العلم الحديث في أوروبا؛ رغم أنها (أسس ابن الهيثم) لم تجد لها ما يقابلها في الثقافة العربية، إذ لم يتردد لها صدى، ولم يكن لها تأثير في الذهنية العربية.

بل إن ما هو جدير بالتأمل هنا، هو تساؤل ابن الهيثم: هل من طريق إلى الحقيقة، بها: “تنكشف تمويهات الظنون وتنقشع غيابات المتشكك المفتون؟”.. ويجيب قائلًا: “فرأيت أني لا أصل إلى الحق إلا من آراء يكون عنصرها [=مادتها] الأمور الحسية وصورتها الأمور العقلية، فلم أجد ذلك إلا في علوم المنطق والطبيعيات والإلهيات التي هي ذات الفلسفة وطبيعتها”.

وهكذا، فإن طريق الحقيقة في العلم، هو “علوم المنطق والطبيعيات والإلهيات”. رغم ذلك، كان ابن الهيثم غريبًا في الثقافة العربية، فلم يؤثر فيها أي تأثير.. بل كان تأثيره واضحا في ثقافة أخرى، هي الثقافة الأوروبية.

يكفي أن نشير هنا، إلى ما قاله برونوفسكي في كتابه “ارتقاء الإنسان” عند تعرضه لحركة الترجمة الأوروبية للتراث اليوناني، من أن “اليونانيين كانوا علي خطأ بيّن في فهم تصور الأجسام في الفراغ، وأن العالم العربي الحسن ابن الهيثم هو وحده العقل الأصيل الذي أنجبته الثقافة العربية، وأدرك كيفية تفسير أن أي جسم يبدو وقد تغير حجمه عندما يقترب من العين. إن فكرة ابن الهيثم من البساطة بحيث يبدو مدهشًا أن العلماء لم ينتبهوا لها إلا بعد 600 عام من نشره لها  باستثناء “روجر بيكون”. أما الفنانون فقد تعاملوا مع هذه الفكرة بطريقة عملية قبل العلماء بزمن طويل”.

بل يمكن أن نشير أيضا إلي أنه في مكتبة الفاتيكان، توجد اليوم نسخة لاتينية مترجمة من كتاب “المناظر” لابن الهيثم، وعليها تعليقات وحواشي “لورنز جبرتي” الذي وضع المنظور البرونزي المشهور لأبواب الكنيسة المعمدانية في فلورنسا.

ولعل من أهم ما جاء في هذه التعليقات ما يلى: “إن مدرسة المنظور لابن الهيثم هي في الواقع مدرسة في الفكر، لأن هدفها لم يكن مجرد تصوير الأجسام كما تبدو في الحياة، وإنما خلق هذا الإحساس بحركة الأجسام في الفضاء”.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock