فن

“كيره والجن” نفير عام لاستنهاض تاريخ حافل بالبطولات

يزخر تاريخنا الحديث والمعاصر بالعديد من قصص البطولة التي لا يجب أن تُنسى، ولا شك أن استلهام تلك القصص في الأعمال الدرامية والسينمائية – أمر بالغ الأهمية؛ خاصة بعد التراجع الشديد لأهمية الكتاب وتأثيره على الأجيال الجديدة، في ظل عصر التكنولوجيا والانفجار المعرفي الهائل.. لقد أصبحنا في حاجة ماسة إلى مثل تلك الأعمال الدرامية والسينمائية التي تعمل كمحفزات للذاكرة الوطنية، التي يتناوشها اليوم أعداء كثر؛ على كل شكل ولون بين مُزَيّفٍ ومشكِكٍ ومنكِر، ومتحذلق بنقد بالغ السذاجة، لحقائق لم تكن حتى وقت قريب محل ارتياب أو تشكيك.

لا بأس إذن أن تقدم لنا خلطة سينمائية عالية الجودة– في معظم عناصرها– تجمع لنا عددا من قصص البطولة، ربما لم تجتمع يوما على أرض الواقع، مع الاعتراف أن كل قصة من تلك القصص تستحق عملا أو أكثر لإظهار كافة جوانبها.. لكننا اليوم لسنا في حال من الترف يتيح لنا ذلك، أو حتى المطالبة به.

استطاع المخرج “مروان حامد” في هذا الفيلم أن ينقلنا إلى قلب أحداث ثورة 1919، وما استتبعها من وقائع، مع الإشارة إلى أسباب الاحتقان الشعبي التي أدت للثورة، مع حادثة دنشواي التي أنهت عقدين من الاحتلال شابهما هدوء يشبه الموات.

اهتمام فريق العمل بأدق التفاصيل كان لافتا للنظر.. الملابس والإكسسوار والديكورات والسيارات وأماكن التصوير، كلها تؤكد الحرص الشديد على خروج العمل على أفضل ما يكون.. كما كانت مشاهد “الأكشن” في العمل على جانب من الدقة والروعة بحيث يمكن اعتبارها من عوامل قوة الفيلم.

كيرة والجن

وجاء أداء الممثلين متباينا بين الإجادة والتألق بغض النظر عن مساحة كل دور، فنرى مثلا الفنان أحمد كمال من خلال عدد محدود من المشاهد، يقدم أداءً بالغ العمق والتأثير يقطر موهبة وإبداعا، ويفصح بهدوء ودون حديث عن مأساة جيل عرابي الذي حُمّل أوزار الهزيمة التي أدت إلى الاحتلال، وظل أسير أحزانه، إلى أن تنفس عبير الثورة، فعاد للحياة التي وهبته أنفاسها الأولى، وسام خلاصه بالاستشهاد.

استشهاد الأب كان السبب المباشر في التحول الجذري الذي طرأ على حياة “الجن” الذي كان غارقا في الموبقات حتى أذنيه، كما كان إعدام الأب في دنشواي هو السبب المباشر في انخراط أحمد عبد الحي كيره في صفوف المقاومة، وهذا المبرر الدرامي من أوهى وأضعف ما في الفيلم، فكيف يكون النضال الوطني ضد المحتل الغاشم؛ هو نتاج ثأر شخصي ليس أكثر، وهو ما ينقص إلى حد بعيد من قيمة العمل، بالإضافة إلى أن التركيز على الخلفية الاجتماعية للأبطال كان هزيلا، ولم تتح للشخصيات المساحة المناسبة للتعبير عن دوافعها ومكنونها بعمق، باستثناء شخصية “دولت فهمي” التي استطاعت هند صبري أن تؤديها بتفوق دون أدنى قدر من المبالغة.. المرأة القبطية الصعيدية ابنة البيئة القاسية التي لا ترحم النساء عند أقل هفوة.. لكنها تتعلم وتعمل بالتدريس وتتغرب عن بلدتها، ولا تتردد في التضحية بسمعتها لإنقاذ عبد القادر–وإن بدا الاعتراف غير منطقي وبلا قيمة تقريبا في الفيلم– إلا أنه كان ضروريا للوصول بالشخصية إلى نهايتها المحتومة، وإن كان اختيار فكرة الصورة التي ستنشرها الصحف؛ ليعلم أهل دولت بالواقعة؛ فكرة مثيرة للسخرية.. ليأتي مشهد قتلها بالغ الصدق والتأثير.. دون كلمة واحدة.

اجتهد كريم عبد العزيز كثيرا في تقديم شخصية كيره، وإن بدا أكبر سنا وأثقل وزنا مما كانت عليه الشخصية الحقيقة التي كانت في أواخر العشرينات من العمر على أقصى تقدير.. لكن عبد العزيز استطاع أن يقنعننا في معظم المشاهد بأهليته للدور؛ وتمكنه من أدواته كممثل راكم خبراته المهنية على مهل. على العكس من أحمد عز الذي جاء أداؤه تقليديا للغاية، فلم يبتعد كثيرا عن أدوار سابقة له في أفلام مثل أولاد رزق بجزأيه، والمصلحة وبدل فاقد وغيرها.. فمتى يتخلص عز من تفاصيل شخصية البلطجي زير النساء التي لم تعد تفارقه؟!

ونأتي لشخصية الهلباوي الخائن التي لعبها سيد رجب باقتدار، وإن لم يتح له الورق الانتقال السلس والمقنع من شخصية الوطني الشريف إلى شخصية الخائن، فظهر انقلابه غير مبرر إلى حد بعيد.. انهيار المقاوم تحت سياط التعذيب، ربما استلزم عدة مشاهد إضافية، حتى بدا لنا في مشهد الخيانة والاعتراف بأسماء زملاء الكفاح، عقب قراءة رسالة رغيف الخبز، أن المخرج راوغ المشاهدين بطريقة لا تليق، فقد كان الهلباوي بتعبيرات وجهه في هذا المشهد أقرب إلى الصمود منه إلى الانهيار والسقوط في بئر الخيانة.

كيرة والجن

تجدر الإشارة إلى أن المخرج لم يفلت زمام إدارة الصراع بحرفية شديدة بين المقاومة والمحتل، فأبقاه متقدا يصل إلى ذرواته بتصاعد شديد الإتقان، ويهبط إلى مستويات اليأس شبه المكتمل قبل أن يتجدد وفق ضوابط فنية مقنعة، واستدعاء أحداث حقيقة إجرامية ارتكبتها قوات الاحتلال ضد الأهالي دون مبرر، اللهم إلا الانتقام لقتلاهم ومصابيهم في عمليات المقاومة، ولنشر الرعب بين المواطنين؛ لإثنائهم عن الانضمام لصفوف المقاومة.. لكن التركيز على الجانب النضالي جاء على حساب جوانب أخرى أبرزتها الرواية، مثل العديد من المواقف التي تبرز النضال السياسي والأدوار التي لعبها الساسة المصريون في تلك الفترة الخطيرة والحاسمة من عمر الوطن.

مما يعاب على العمل أيضا تلك الأجواء الماجنة التي ظهر فيها أفراد المقاومة، طوال الفيلم، دون مبررات درامية.. ما يحيل المشاهد المدقق لمشاهد مماثلة في الأفلام الأمريكية والأوروبية التي مجدت المقاومة الشعبية ضد النازي في الحرب العالمية الثانية.. وكأن المقاومون في تلك الحقبة لم يوفروا أماكن للقاءات والاجتماعات والتخطيط للعمليات، سوى البارات والخمارات!

التصوير كان من أقوى عناصر هذا العمل الفني المبهر؛ إذ استطاع أحمد المرسى أن ينتقي كادراته بعناية شديدة، لينقلنا إلى أجواء تلك الحقبة التاريخية، وبالطبع فإن مشاهد المعارك والمواجهات كانت على أفضل ما يكون، كما كانت موسيقى هشام نزيه متميزة جدا في معظم فترات الفيلم، مجسدة للخطورة الداهمة التي اقتربت كثيرا من أبطال المقاومة، وكذلك في مشاهد موت الأبطال، لكنها (أي الموسيقى) ارتفعت دون ضرورة حد الإزعاج في عدد قليل من المشاهد.

بقي أن نقول أن فيلم “كيره والجن” من الأعمال الجيدة والمهمة جدا في تاريخ السينما المصرية، وأن الفيلم – بكل ما شابه من أوجه القصور– هو أفضل ما قدمته السينما المصرية منذ سنوات، وهو إلى جانب عدد قليل من الأعمال السينمائية مثل “حرب كرموز” يمكن أن يكون بداية موجة من الأعمال التي تتناول نضال المصريين ضد الاحتلال البريطاني البغيض الذي يحلو للبعض اليوم تجميله، وإسباغ صفات التحضر عليه، ومقارنته بأنواع أخرى من الاحتلال كانت أكثر همجية ووحشية مثل الاحتلال الإيطالي في ليبيا، والفرنسي في الجزائر.

ولا شك أن بعث شخصيات مثل: أحمد عبد الحي كيره، وعبد القادر شحاته، ودولت فهمي، وغيرهم من الشخصيات الوطنية العظيمة، هو بمثابة إنعاش للذاكرة الوطنية، وتحريض مباشر على نبش أوراق التاريخ النضالي المصري لاستخراج كنوزه؛ لتعزيز القيم الوطنية في زمن تراجعت فيه كل القيم أمام القيم المادية التي أصابت الكثيرين بسعار لا شفاء منه.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock