بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عمان
ربما لم يكتسب خبير سلطة وصانع سياسة خارجية ولاعب استراتيجيات ماهر على الرقعة الدولية شهرة ومكانة مثلما اكتسب هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأمريكية (1969 -1976). شهرة تتضاءل أمامها أسماء مرموقة في تاريخ العلاقات الدولية مثل “ريشيليو. الفرنسي ومترنيخ” البروسي الذي هو مثل كيسنجر الأعلى.
وإذا كان كيسنجر قد حصل على جائزة نوبل لنجاحه في توقيع وقف إطلاق النار في الحرب الفيتنامية وانتشال أمريكا من مستنقع عارها في هذا البلد الآسيوي ونجاحه في إنهاء القطيعة مع الصين وتبريد السباق النووي المخيف مع الاتحاد السوفييتي فإن إنجازه الأعظم لأمريكا أو الأخطر على العرب كان نجاحه في صياغة شرق أوسط جديد مختلف تمامًا عما كان يعرف “بعالم عربي” شبه متجانس في مرحلة ما بعد الاستعمار القديم وحركة التحرر الوطني العربية ونموذج عدم الانحياز والعلاقات المتوازنة بين المعسكرين الشرقي والغربي آنذاك محولا المنطقة إلى شرق أوسط أمريكي بالكلية ينعقد فيه لواء القيادة والتوجيه الاستراتيجي وقرارات النفط والسلاح والحرب والسلام إلى واشنطن لوحدها فقط.
بعبارة أخرى فإنه إن كان هناك من يستطيع أن ينسب إليه “أبوة” الشرق الأوسط الحالي والذي تشكل في أعقاب تطورين كبيرين هما حرب أكتوبر 1973 وحظر النفط الشهير 1973-1974 فهو هنري كيسنجر.
لماذا نتذكر كيسنجر الذي يدخل عامه المائة بكامل اللياقة العقلية الآن؟ ليس فقط عودته المظفرة إلى الساحة الدولية بآراء براغماتية معاكسة للموقف الغربي المندفع بحماقة إلى هدف – حذر من أنه لن يتحقق – وهو إذلال روسيا ولكن أيضًا وهذا هو الأهم لأن “إرثه وخبرته التاريخية”هي التي قادت الرئيس الأمريكي بايدن في زيارته التي انتهت أمس للشرق الأوسط.
فكدليل يقود أعمى.. يقود كيسنجر التحرك الأمريكي الحالي في الشرق الأوسط فبعد ما يقرب من عقدين من الفشل والتخبط وانعدام البوصلة الاستراتيجية لواشنطن في الشرق الأوسط دفعت فيها ثمنا فادحا تمثل في تراخي قبضتها على قرار حلفائها في المنطقة، وتراجع فيها بشكل نسبي نفوذها عليهم لصالح روسيا والصين كلاعبين دوليين ولصالح إسرائيل وإيران وتركيا كلاعبين إقليميين.
عندما انتهى غزو العراق إلى كارثة انفجار الطائفية وانفجار الإرهاب وداعش. وانتهى غزو أفغانستان إلى انسحاب مذل ووصلت علاقات واشنطن مع الدول المعتدلة الحليفة إلى أدنى مراحلها في العامين الأولين لبايدن. بدأت أمريكا في التفكير في إعادة النظر في سياسة التعثر والإخفاق. ولكن ما أيقظها وحركها فعلا لتغيير سياستها هو نتاج حرب الوكالة الأوكرانية وعلى رأسها حاجة أمريكا الملحة إلى المنطقة نفطا وغازا وموقعا جغرافيا حاكما إذا أرادت أن تكسب هي وكييف هذه الحرب أو على الأقل تمنع موسكو من أن تكسبها بالقاضية.
كالتاجر الذي تعثرت تجارته فيعود حينها إلى دفاتره القديمة وصفقاته التي حقق فيها نجاحا عادت أمريكا إلى التفكير في تجاربها الناجحة في إحكام قبضتها على المنطقة فلم تجد أفضل من إرث وخبرة كيسنجر التاريخية. فعندما دخل كيسنجر إلى العالم العربي كان النفوذ الدولي عليها سجالا متوازنا بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة ولكن كان يجمع دوله الحد الأدنى من الأمن القومي العربي القائم في جوهره على مركزية قضية فلسطين واعتبار الاحتلال الإسرائيلي لها العدو الرئيسي المشترك لهذا الأمن العربي الجماعي. ومكنهم هذا الحد الأدنى من غسل عار هزيمة 1967 بحرب العبور في أكتوبر ومن فرض حظر نفطي اشعر الغرب أن العرب لديهم أوراق ضغط موجعة إذا امتلكوا إرادة استخدامها.
حوّل كيسنجر النصر العربي الذي تحقق بفضل شراكة عسكرية بين مصر وسوريا ومشاركة عربية بوحدات عسكرية ودعم مالي كبير من معظم الدول العربية إلى مفاوضات إطلاق نار متوازية ثم فصل قوات ثم تسوية سياسية منفصلة لكل دولة عربية على حدة مع إسرائيل وبإشراف أمريكي منفرد ومنحاز فانتهت فكرة العالم العربي وكان أهم ما طلبه من السادات وقتها (لا تقل نحن العرب قل أنا مصر) وهكذا فعل مع سوريا والآخرين.
وقلب كيسنجر الحظر النفطي من مكسب للعرب ودول الجنوب المنتجة للنفط إلى مكسب أمريكي كامل فيما عرف بنظام البترودولار الذي يهيمن على آليات الاقتصاد العالمي حتى يومنا هذا، والذي يقف وراء الهيمنة شبه المطلقة للدولار الأمريكي على الاقتصاد والتجارة الدوليين. فقد قاد كيسنجر المفاوضات مع السعودية التي اختتمت باتفاق نيكسون /فيصل الشهير والذي يقضي باستمرار أوبك بتسعير النفط بالدولار فارتفع الطلب على الدولار إذ تحتاجه كل دول العالم لشراء النفط والغاز وتدفقت الفوائض البترولية المخيفة إلى سندات الخزانة الأمريكية والاستثمار في الاقتصاد الأمريكي ولا زالت حتى هذه اللحظة.
كيف فعل كيسنجر ذلك؟ باتباع سياستين مترابطتين الأولى الأكثر شهرة وهي سياسة “الخطوة خطوة” والثانية هي “الإيحاء” للطرف العربي كل على حدة بأن هناك “أزواجا متبادلة من التنازلات” يحصل عليها من ناحية ويقدمها لإسرائيل من ناحية أخرى في المفاوضات التي قادها كيسنجر بنفسه فيما اعتبر أوضح نموذج لما صار يعرف بالدبلوماسية المكوكية.
تعود إدارة بايدن إلى النموذج الكيسنجري باتباع الخطوة خطوة المتدرجة.
فقد استفادت هذه الإدارة من الدرس القاسي لمحاولة إدارة ترامب فرض هدفها الحقيقي مرة واحدة وبشكل فج فيما عرف بصفقة القرن التي طرحها ترامب ولم يجرؤ نظام سياسي عربي مهما كان تحالفه وثيقا مع واشنطن وتطبيعه جار علنا أو سرا مع إسرائيل أن يجاهر بتأييده لهذا المقترح.
تريد واشنطن أن تسترد هيمنتها على الشرق الأوسط بأقل قدر من التدخل المباشر وتخصيص الموارد وفي الوقت نفسه أن تستمر في هدفها الأعلى كونيا وهو توجيه جل مواردها الاستراتيجية نحو الصين والمحيط الهادئ وأوراسيا حيث معركتها الكبرى المنتظرة لمنع الصين من مشاركتها قيادة النظام العالمي.
ويتحقق هذا لها إذا استطاعت بناء نظام إقليمي عربي/ إسرائيلي أمني واقتصادي شرق أوسطي هي قائده الأعلى كما كان جنرالها ورئيسها لاحقا دوايت أيزنهاور القائد الأعلى للحلفاء في الحرب العالمية الثانية وإسرائيل هي نائبها أو القائد المباشر للنظام بعد إدماجها في القيادة المركزية للشرق الأوسط وهي القيادة التي تجسد ماديا الحضور الأمريكي العسكري والاستراتيجي المختص بالمنطقة.
هذا النظام الذي يحلو للبعض تسميته بـ الناتو العربي الإسرائيلي لا تستهدف واشنطن إقامته مرة واحدة والمخاطرة باستفزاز الشعوب العربية أو برد فعل غير متوقع من إيران التي تعلم علم اليقين أنه سيكون حلفا مصمما لمواجهتها. وإنما استهدفت من خلال زيارة بايدن ونجحت في ذلك نجاحا تاما هو التمهيد التدريجي على طريقة كيسنجر بالبدء بفك اشتباك القوات حتى وصل لإخراج أكبر دولة عربية من الصراع بعد نحو سبع سنوات من خطوة صغيرة تليها خطوة أخرى حتى وصلت لانقلاب استراتيجي كامل.
فتح الخطوط البحرية والأجواء بين إسرائيل ودول عربية، سهولة تبادل الزيارات علنا وسرا مع فتح هذه الخطوط بين مسؤولين ورجال أعمال وعسكريين وأمنيين، دراسة نظام مشترك للدفاع الجوي والإنذار المبكر يعتمد على التفوق الإسرائيلي التكنولوجي في هذا المجال ولقد بعث بايدن برسالة للجانب العربي قبل قمة جدة بجعل أول فعالياته في إسرائيل حضور عرض قدرات وتقنيات إسرائيل في الدفاع الجوي واعتراض الصواريخ والطائرات المسيرة.. الخ.
توضع الآن بعد زيارة بايدن وبهدوء تام ودون استثارة غضب إيران أو الشعوب العربية والإسلامية البنية التحتية لنظام هندسته الولايات المتحدة سيدرس فيه بقوة وعلى مراحل متدرجة إمكانيات تنفيذ ما حلم به يوما شمعون بيريز ويعمل عليه الآن أفيغدور ليبرمان من مد بنية تحتية للسكك الحديدية والطرق وربط الشبكات الكهربائية وشبكات الغاز بين إسرائيل ومنطقة الخليج والأردن ومصر..الخ.
بعبارة أخرى ستعود أمريكا لمقولة كيسنجر إن أهم ما فعله في الشرق الأوسط كان “مبادلة الأرض بالوقت وليس مبادلة الأرض بالسلام “!!.