ظل اهتمام بعض مفكري النخبة المصرية منصبا –لفترة طويلة– على العادات والتقاليد، التي يمكن أن تساهم في إحداث نقلة نوعية في المجتمع، وذلك في ظل حقيقة أن محاولات التغيير من أعلى، بإصدار قوانين.. لم تكن مجدية غالبا في ظل هيمنة القيم التقليدية المحافظة على الحياة الاجتماعية في مصر.
هذه الحقيقة تتجسد بوضوح شديد وفق دراسة “استشرافات النخبة المثقفة لمستقبل أنساق القيم الاجتماعية في مصر” والصادرة مؤخرا عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية.
وتشير الدراسة إلى أن “عملية التحديث الكبيرة التي شهدتها مصر، منذ زمن بعيد لم تؤدِّ في نهاية المطاف إلى حداثة فكرية؛ تجد صداها في المجتمع. وعلى حد قول أحد الباحثين فإن حركة التفكير النهضوي العربي –في عمومه– قد انشغلت باستهلاك المنتجات الفكرية الغربية، دون أن تنشغل بالأساس بالعقل الحديث ذاته، المؤسس للقيم والمبادئ الكبرى.. وهو ما أفرز عددا من القضايا الملحة التي تحتاج لمزيد من المعاينة والاهتمام أولها قضية الهوية التي تعود إلى المشهد مرارا وتكرارا طوال تاريخنا الوطني، وقد تجددت راهنا في ظل هذا “التقاطب” بين قوى رجعية ترفع راية الاسلام وتحض على التمييز على أساس الدين بين المواطنين، وقوى مدنية تؤيد عدم التمييز وترى في الهوية مفهوما مرنا قادرا على استيعاب كل أطياف المجتمع في نسيج واحد متعدد الألوان”.
وتؤكد الدراسة أن هذا الحديث عن التقاطب يقود على الفور إلى الروافع الثقافية التي تساعد في ترسيخ أي من النموذجين، وترجيح كفته في الوعي العام، ولعل أولها طبيعة الخطاب الديني المهيمن، وهل هو خطاب منفتح أم منغلق.. وتتمثل الرافعة الثانية في التعليم العام الذي يُمثل موضوعا أساسيا في النقاش العام ومصدرا من مصادر القلق والتساؤل.
ما هي مسارات مسألة الهوية؟ وما هو السبيل لحسم الجدل المتجدد حولها داخل المجتمع المصري؟ سؤال جدلي ذو شجون كثيرة؛ حاولت الدراسة جاهدة أن تصل إلى إجابة له، وترسم صورة لما سيكون عليه الواقع في مصر، من خلال استطلاع عينة للنخبة المثقفة في مصر.
بحسب الدراسة، تُبين القراءة المعمقة للمشهد الفكري للهوية في سياقنا المصري؛ أنها موزعة على أربعة خيارات أساسية هي: الهوية الدينية والهوية الوطنية والهوية القومية العروبية والهوية العولمية متعددة الجنسية. ورغم أنها خيارات مؤسسة تاريخيا، ولها جماعات تدافع عنها إلا أن الأمور تبدو أكثر تعقيدا، فعرضها متمايزة عن بعضها البعض؛ لا ينفي التداخلات التي تحدث فيما بينها حتى داخل الشخص الواحد.
وتشدد الدراسة على أن تغليب انتماء هواياتي معين سواء كان وطنيا أم دينيا، قد يرتبط بمحفزات تنشط هذا الانتماء أو ذاك أو تضعه كأولوية في سياق زماني أو مكاني محدد، وهو الأمر الذي قد يكون من المهم وضعه موضع اعتبار خلال مناقشة المستقبل.
وتضيف الدراسة أن الهوية القائمة على الدين هو الشكل الأكثر ارتباطا بالمجتمعات التقليدية، حيث يكون وجود الفرد وكذلك الجماعة قائما على أساس الانتماء الديني، وقد أصبح هذا المفهوم أكثر حضورا ضمن سياسات الهوية التي يتبناها الإسلام السياسي في جميع أطروحاته بداية من أكثرها تشددا وابتعادا عن الحداثة إلى أكثرها اعتدالا. إنه المفهوم الذي لايزال يصارع من أجل البقاء، في ظل وجود قوى إقليمية ودولية تدافع عنه وتتبناه، واستطاع هذا المفهوم أن يترسخ في عهد مبارك، وإن تغيرت الأحوال كثيرا بعد ثورة يونيو 2013.
أما الشكل الثاني للهوية وهو الهوية الوطنية؛ فيعتبر أكثر ارتباطا بالتحولات التي طرأت إبان الاحتلال؛ حيث نشأ مفهوم الكل في واحد، من خلال الاعتزاز بالتراث المصري، وتكريس جميع أدوات القوى الناعمة في خدمة التحرر من الاحتلال، وهو المفهوم الذي أصبح راسخا في بنية الدولة الحديثة، وأساس لوجودها ككيان يتجاوز الخصوصيات الفردية. أما الشكل الثالث وهو الهوية القومية العروبية، فينهض بالأساس على أولوية الارتباط بالأمة العربية ارتباطا يقوم على وحدة الثقافة المشتركة، وبحسب الدراسة فإن هذه التمثلات الثلاث للهوية، لاتحجب عن العين التجلي الأخير لمعني الهوية الذي فرضته العولمة، وحركة الهجرة الواسعة.
وتشير الدراسة إلى أن هناك سيناريوهين متاحين أمام مسالة الهوية، أحدهما متفائل يتوقع أن يتضاءل بشكل ملحوظ حضور مسألة الهوية، وأن تنجح جهود إعادة صياغة المكون الديني للهوية بفضل صياغة خطاب معتدل، وفي ظل هذا سوف تهيمن رؤية أكثر اتساعا ومرونة للهوية الثقافية والحضارية المصرية بوصفها الحاملة لكل المكونات، أما السيناريو المتشائم فيتوقع أن تظل مسألة الهوية حاضرة بقوة.