رؤى

فؤاد سيزكين.. عاشق التراث ومؤرخ الحضارة

يعد المؤرخ الألماني والتركي الشهير فؤاد سيزكين عالما ورائدا في تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فقد ألف العديد من الكتب والموسوعات الضخمة، التي أرّخت لمسيرة العلم والحضارة الإسلامية.

ولعل نقطة التحول في حياة هذا المفكر؛ هي إجادته للغة العربية وإتقانه لها، والذي ساعده على التعمق والغوص في كنوز التراث العربي والإسلامي، وكان من ثمار ذلك التعمق موسوعات ضخمة في التراث والحضارة الإسلامية.. وكان سفره إلى ألمانيا من أهم المحطات الفكرية في حياته، حيث اتخذها موطنا له، وهناك انهمك في دراسة التراث العربي وتاريخ العلوم عند العرب، وكان من ثمار ذلك إعداد رسالة الدكتوراه في تاريخ العلوم في جامعة فرانكفورت الألمانية، والتي أصبح أستاذا بها بعد ذلك يدرّس تاريخ العلوم العربية والطبيعية، وظل بها حتى عام 1990.

وقد زار سيزكين العديد من الدول العربية، وقدم خلال هذه الزيارات مجموعة من المحاضرات القديمة المتعلقة بالتراث العربي والإسلامي، تناولت قضايا تراثية كبرى، تمثلت في ضبط منهجية البحث في مجال التراث العربي، وأهمية ذلك التراث، كما تطرق من خلال تلك المحاضرات إلى اسهمات العلماء المسلمين في تطوير العلوم خاصة الرياضيات والطب والكيمياء. كما وضح من خلال هذه المحاضرات تأثيرات التراث العربي في أوروبا، وبيّن دوره في النهضة الحضارية في الغرب، ثم تطرق إلى مناقشة قضايا فكرية لها صلة بالواقع العربي والإسلامي المعاصر من خلال مناقشة أسباب ركود الثقافة الإسلامية، واقتراح العوامل المساعدة على النهوض والتطور، وقد جمع البروفيسور سيزكين هذه المحاضرات في كتاب نشر عام 1984، تحت عنوان “محاضرات في تاريخ العلوم العربية والإسلامية” وفي هذا السياق نلفت الانتباه إلى أن سيزكين كان صاحب منهجية في التعامل مع التراث العربي والإسلامي، أقام تلك المنهجية على مبادئ ومرتكزات فكرية تؤصل لبنية هذا التراث ووحدته ككل لا يتجزأ في السياق التاريخي والحضاري الشامل، وتمهد لبلورته وصياغته ونشره باللغات الحية للتعريف به، والحث على دراسته والوقوف على حقيقة دوره التنويري في مسيرة الحضارة الإنسانية.

فؤاد سيركين

ولد المفكر والمؤرخ فؤاد سيزكين في مدينة اسطنبول  بتركيا عام 1924، في أسرة محافظة تمسكت بانتمائها الحضاري الإسلامي رغم السياسات الرامية إلى تغيير قبلة تركيا من الشرق إلى الغرب، ولقد سلك سيزكين طريق البحث عن التراث العلمي العربي متأثرا بوالده وبأستاذه المستشرق هيلموت رتير، إضافة إلى شغفه المبكر بالرياضيات والعلوم، ويتحدث سيزكين عن نفسه في هذا الموضوع قائلا: “حين كنت صغيرا في بلدي تركيا؛ علمني والدي اللغة العربية، وكنت شغوفا بالرياضيات والعلوم الطبيعية؛ لذلك التحقت بكلية الهندسة بعد إتمام دراستي الثانوية، ثم اتجهت الى معهد الشرقيات بإسطنبول لاعتقادي بأنه يلتقي مع ميول والدي الدينية”.

وقد درس سيزكين على يد المستشرق رتير وصحبه لمدة طويلة، وتعلم منه الكثير، وظهر ذلك الأثر في أعماله اللاحقة.. وعن ذلك يقول سيزكين: “كانت لتوجيهاته أثر فعال في مجرى حياتي العملية والعلمية”.

ولقد أبدع سيزكين مؤلفات تعد بصمة في تاريخ العلوم العربية والإسلامية؛ ولعل من أبرز تلك المؤلفات، موسوعة “تاريخ التراث العربي” حيث شرع سيزكين في عام 1947، في جمع مادة علمية لوضع مستدرك لكتاب تاريخ الأدب العربي للمستشرق الألماني كارل بروكلمان، غير أنه وجد مصادر ومخطوطات كثيرة تفوق تصوراته وتجاوزت أمنياته، ففكر في الاشتغال على مشروع علمي جديد؛ فكان يعمل سبع عشرة ساعة في اليوم، بعد جمعه للمخطوطات العربية المتفرقة في المكتبات الخاصة والعامة في الشرق والغرب، ونسخها وترجمتها إلى الألمانية، واستخراج كنوزها واقتباس دررها ثم نشرها في أجمل صورة.

قسم سيزكين موسوعته الضخمة التي تقع في اثني عشر مجلدا إلى تخصصات علمية: 1 – العلوم القرآنية- التاريخ -علم الحديث – علم الكلام. (المجلد1)

2- الشعر العربي من الجاهلية إلى سنة 430ه. (المجلد 2)

3- الطب – الصيدلة – البيطرة – علم الحيوان. (المجلد3)

4- الكيمياء – الزراعة – علم النبات. (المجلد4)

5- علم الرياضيات. (المجلد5)

إلى أن يصل إلى المجلد الثاني عشر من الموسوعة.

لسيزكين مؤلفات أخرى مثل “العلم والتكنولوجيا في الإسلام” ويقع في خمس مجلدات، “تاريخ الأدب العربي” والذي يقع في أربعة عشر مجلدا. وغيرها من المؤلفات التي تركت بصمة واضحة في مجال العلم وتاريخ العلم العربي والإسلامي.

كان لسمات شخصية سيزكين الأثر الفعال فيما أنتجه من مؤلفات، وما تركه من ميراث علمي. ولعل من أبرز سمات فؤاد سيزكين تقديسه لقيمة الزمن واحترامه للوقت، فهو شديد الحساسية فيما يتعلق بمسالة الوقت، وفي هذا يقول: “كنت أتابع ندوات أستاذي عندما كنت طالبا عنده، وبعد إن تعارفنا، ذهبت في المرة التالية لحضور ندوته متأخرا ثلاث دقائق؛ فأخرج ساعته الذهبية من جيبه ووجهها إلي، وقال: “تأخرت ثلاث دقائق يجب ألا تكرر هذا مجددا”. هذا الدرس البليغ من أستاذه جعله يحترم الوقت ويقدره.

من سماته الشخصية أيضا التواضع الجم والنزوع المثالي؛ فكان كثيرون ممن التقوا سيزكين يندهشون من تواضعه الكبير سواء في ما يتعلق بالأمور العلمية أو العملية. ومما يحكي الدكتور بلماز أن سيزكين إذا قرأ كتابا ولم يفهمه؛ فإنه لا يتهم صاحب الكتاب بالغموض والصعوبة، بل يبادر إلى قراءته مرات عديدة، ثم يتهم نفسه فيقول: “يبدو أنني لم أصل بعد إلى مستوى يؤهلني لفهم هذا الكتاب”. كما إن من سمات شخصية سيزكين عشقه للقراءة التي كان يراها مفتاحا للحضارة، وأكثر ما كان يؤلمه هو انخفاض مستوى القراءة عند العرب والمسلمين، بعكس الأوروبيين. فطالما عبّر عن امتعاضه من بعض المسافرين الأتراك أو المسلمين الذين يراقبون الأرض من نوافذ الطائرة، أو يغطون في نوم عميق، بينما المواطن الألماني أو الأوربي منهمك في قراءة كتاب أو مجلة. من هنا يؤكد على أنه لا نهضة لهذه الأمة إلا من خلال نشر القراءة وتعميمها، وجعلها ثقافة وأسلوب حياة.. وكان التمكن من اللغات سمة بارزة من سمات الدكتور فؤاد سيزكين، فقد تمكن من أكثر من لغة حية جعلته واسع الاطلاع، غزير المعرفة يرى أنه لا عمق ولا جودة في العملية التعليمية بدون إتقان للغات الحية.

لقد مثل البروفيسور فؤاد سيزكين قيمة كبيرة في تاريخ العلم العربي والإسلامي، وترك ميراثا فكريا كبيرا تتناقله الأجيال. وغاص في التراث العربي الإسلامي بعمق وعشق، وترك لنا موسوعات علمية ضخمة تحكي تفوق العلماء العرب المسلمين في جميع ميادين العلم والفكر. فهو بحق عاشق التراث ومؤرخ الحضارة الإسلامية. ومن هنا ندعو جميع الباحثين في الشرق والغرب إلى إلقاء الضوء على ميراثه الفكري والعلمي، فهو جدير بحق أن نلقي عليه الضوء وأن ندرسه، لأنه يحكي أنشودة تقدم العلماء العرب المسلمين في ميادين العلوم الطبيعية مثل الكيمياء والفك والرياضيات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock