بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن عمان
إذا صدقت المعلومات التي أكدت أن الاتفاق النووي الإيراني قد يتم التوقيع عليه قريبا فنحن إزاء تطور إقليمي بأفق عالمي كبير سينعكس على العلاقات بين قوى إقليم الشرق الأوسط المتنافسة العربية والإيرانية والتركية والإسرائيلية، وسينعكس أيضا على علاقات الإقليم بالقوى العالمية الداخلة الآن في صراع مكشوف هدفه صينيًا وروسيًا هو مزاحمة واشنطن في التأثير على تفاعلات الإقليم وهدفه أمريكيًا بمساعدة إسرائيلية استمرار هيمنة واشنطن المطلقة عليه منذ خمسين سنة تقريبا خاصة على الجزء العربي من الشرق الأوسط.
وعلى عكس الرواية الإسرائيلية التي يتبناها للأسف بعض العرب نخبًا وحكومات فإن توقيع هذا الاتفاق بين طهران ومجموعة الخمس الدولية بقيادة إدارة بايدن قد يكون مفيدًا للعالم العربي أي قد يشكل فرصة وليس تهديدا منحة وليس محنة بشرط أن يزهد العرب في دور «رجل المنطقة المريض» عديم المبادأة الذي يقنع بدور الفرجة ورد الفعل الذي تدحرج نزولا فيه خاصة منذ غزو العراق 2003 لأن يصبح مرتعًا مفتوحًا لتلاعب الجميع به كبارًا وصغارًا.
إسقاط الرواية الإسرائيلية التي تثير الرعب والفزع من أن إحياء الاتفاق النووي الإيراني لن يمنع إيران من إنتاج السلاح النووي وسيفتح شهيتها لمزيد من التمدد الإقليمي هو نقطة البدء العربية الوحيدة للوصول إلى موقف حد أدنى عربي مشترك للتعامل مع تبعات هذا التطور.
الرواية الإسرائيلية ليست فقط رواية كاذبة ولكن أيضا رواية معادية للمصالح العربية بقدر ما هي معادية لمصالح إيران، أما أنها كاذبة فيكفي الإشارة إلى أن هذا الاتفاق من الناحية الجوهرية يحقق الهدف الاستراتيجي الأمريكي-الإسرائيلي المشترك بإبقاء إسرائيل القوة النووية العسكرية الوحيدة في الشرق الأوسط.
فحسب المصادر الإسرائيلية يضمن مشروع الاتفاق تجميد تخصيب اليورانيوم بنسبة 3.67% (كما ينص الاتفاق النووي الأصلي منذ سنة 2015)، ونقل فائض اليورانيوم المخصّب إلى خارج إيران، وإعادة الرقابة الكاملة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتقليص عدد أجهزة الطرد المركزي الفعالة وإيقاف عمل تلك التي فُعِّلت خلال فترة إلغاء ترامب للاتفاق الأول.
وحسب هآرتس الإسرائيلية فإن ذلك معناه أن إيران لن تكون قادرة على إنتاج رأس حربي يحمل قنبلة نووية قبل 3 أو 5 سنوات وهي تقديرات قد تحتمل نفي معايير التهويل والتضخيم الإسرائيلية إذ أن عمليات الاغتيال لرئيس الفريق النووي الإيراني محسن زاده وتخريب منشآت نووية إيرانية يشير إلى أن المدة قد تصل إلى عشر سنوات.
بعبارة أوضح فإن الاتفاق النووي الإيراني هدفه الأول هو ضمان أمن وتفوق إسرائيل وهو يمنع أقرب طرف شرق أوسطي -وهي إيران- من الاقتراب من امتلاك السلاح النووي سنوات عديدة.. هي كافية باعتراف الإسرائيليين أنفسهم للتفرغ لبناء قدرات جيشهم بطريقة حاسمة تمكنهم عندها من تدمير أي منشأة نووية إيرانية ومنع طهران باتفاق أو بدون اتفاق من كسر احتكار تل أبيب للسلاح النووي كقوة ردع تتفوق به على دول المنطقة مجتمعة.
إذا أضفنا إلى ذلك مكسبين تقول مصادر إسرائيلية إن بايدن تعهد بهما الأول وهو علني بدعم التفوق النوعي العسكري الإسرائيلي بكل ما لدى أمريكا من ترسانة سلاح متقدمة والثاني وهو غير معلن يضمن عدم معارضة واشنطن لهجوم إسرائيلي في المستقبل على القدرات النووية الإيرانية في حال ثبوت أن طهران استغلت فترة الاتفاق وطورت رأسها الحربي النووي فإننا أمام دليل لا ينقض على صهيونية بايدن التي تباهى بها دوما.
أما أن الرواية الإسرائيلية معادية للمصالح العربية كما هي معادية للمصالح الإيرانية فيمكن اكتشافها بسهولة من العودة إلى الاستراتيجية المشتركة التي اتفق عليها رئيس الوزراء الأسبق نتنياهو مع الرئيس الأمريكي السابق ترامب وتم على أساسها قرار ترامب بإلغاء الاتفاق مع إيران من طرف واحد. قامت هذه الاستراتيجية على فكرة بالغة الخبث وهي تحويل المشكلة الجوهرية للشرق الأوسط منذ 64 عاما وهي مشكلة احتلال إسرائيل لفلسطين إلى مشكلة ثانوية واستبدال إيران والصراع مع إيران ليصبح المشكلة الرئيسية للمنطقة.
وفي هذه الحالة يسقط الشرط العربي من عام 2000 بجعل التطبيع مع إسرائيل مرهونا بحل الدولتين وقيام دولة فلسطينية مستقلة. ويجري التطبيع بينما تستمر إسرائيل في قضم واستيطان ما تبقى من أراضي الضفة الغربية. فهنا ساعتها كما حدث باتفاقات إبراهام يكون التطبيع مجانيا بل وجزء من خطة أمريكية-إسرائيلية لبناء تحالف بين إسرائيل ودول عربية في مواجهة إيران.
هذه الاستراتيجية تعني فيما تعني قيادة إسرائيلية المنطقة بتوجيه وإشراف أمريكي وإدخال العرب في صراع مع جارٍ بالجغرافيا والتاريخ والتراث الحضاري الإسلامي المشترك وهدم وحدة الدولة الوطنية أو القُطرية العربية على رؤوس شعوبها التي تتكون من تنوع مذهبي ضمن تنوعات أخرى عرقية وثقافية.
وعلى الرغم من سقوط ترامب وقرب إحياء الاتفاق النووي الذي أماته فإن استراتيجيته لم تسقط تماما بعد، وهنا تأتي بالضبط الحاجة إلى موقف عربي يدفن هذه الاستراتيجية تمامًا ويخطط لتعامل ناضج سياسيا مع إيران يقوم على اقتراب صحيح أساسه هو أن إيران دولة طبيعية في المنطقة وليست كيانا مزروعا كدولة الاحتلال الإسرائيلي وأن إيران هي جار دائم لن يذهب إلى مكان آخر.
هذا التعامل يقوم بالقدر نفسه على حقيقة أن الضعف العربي الفاضح خاصة في ربع القرن الأخير أغرى دول الجوار الأقليمي الثلاث للعالم العربي بالتمدد على حساب المصالح العربية، وأن إيران أصبح لها نفوذ مبالغ فيه في العراق وسوريا ولبنان واليمن، كما لتركيا نفوذ في كل من العراق وسوريا وأماكن أخرى وكما تهدد إثيوبيا مصر والسودان وجوديا بعمل أحادي يتمثل في سد النهضة.
إذن المشكلة عربية قبل أن تكون إيرانية، وقبل تراجع دور مصر ووجود الحد الأدنى من العمل العربي المشترك حتى توقيع اتفاقات التسوية المصرية والفلسطينية والأردنية لم يكن هناك هذا التمدد للقوى الإقليمية في الأراضي والنزاعات العربية الداخلية.
إن الاعتراف بأن هناك حاجة لوقف التمددات الإيرانية والتركية والتهديدات الإثيوبية للعالم العربي وأمنه القومي لا يعني الدخول في مواجهات أو استبدالهم وهم دول راسخة في الإقليم بتحالف مع العدو الإسرائيلي وإنما البحث عن الطرق السلمية والحوار والتفاوض دون تنازل عن الحقوق العربية ولكن تفريقا بين التناقض والصراع الرئيسي مع إسرائيل والتناقض والصراع الثانوي مع طهران وأنقرة وأديس أبابا.
هناك تطوران مهمان داعمان في هذا الصدد الأول هو أن إيران إذا أبرمت الاتفاق ستكون إيران أقل توترًا وعصبية من إيران المحشورة بقسوة الآن تحت وطأة عقوبات اقتصادية مخيفة فرضها عليها ترامب. ومن ثم فإن قيام حوار مع طهران أقل قلقا من قيام اضطرابات اقتصادية واجتماعية نتيجة العقوبات سيكون أفضل بكثير في المستقبل؟.
الثاني هو التغيرات الإيجابية النسبية الأخيرة في العلاقات الخليجية-الإيرانية، وهي تغيرات يمكن تطويرها نوعيًا إلى حوار عربي جماعي مع إيران يناقش كل قضايا الخلاف.
إن حوارًا عربيًا إيرانيًا هو فريضة الوقت الآن.. حوار جاد ولكن هادئ يستبدل لغة الصراع والتهديد بلغة الحوار والتفاوض.. حوار يستبعد فيه من البداية فرضية سممت العلاقات بين الجارين التاريخيين اللذين جمع الإسلام بينهما بروابط يصعب فكها وهي فرضية أن العرب قد يكونون مخلب قط في تحالف مع إسرائيل ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
إذا تمكن العرب من جمع أنفسهم أولا على كلمة سواء من حدث إبرام الاتفاق النووي الإيراني، إذا تم وبلورة موقف رافض لأي حلف من أي نوع مع إسرائيل أو غيرها ضد إيران وفي الوقت نفسه تمسكوا بحقوقهم في ساحات عربية مستقلة، فإن الاتفاق النووي الإيراني قد يصبح فرصة للعرب لإعادة التموضع الاستراتيجي الإقليمي وإعادة الاعتبار لمقتضيات أمنهم القومي التي انتهكت بقسوة في العقود الثلاثة الأخيرة في مرحلة استفراد القطب الأمريكي الأوحد بقيادة العالم.