فن

منعطف خطر.. جرس إنذار متأخر في واقع مؤلم يتداعى!

انتهى الخميس الماضي عرض مسلسل “منعطف خطر” على إحدى المنصات.. وهو عمل درامي متماسك تدور أحداثه في أجواء بوليسية؛ عقب اكتشاف مقتل مراهقة من نجمات “السوشيال ميديا” وتوجيه أصابع الاتهام الأولى إلى مالك السيارة التي وجدت فيها الجثة.

ورغم أن أحداث المسلسل تدور في إطار تشويقي، حيث يقع عدد لا بأس به من شخصيات العمل داخل دائرة الاتهام، كما أن التصاعد الدرامي للأحداث واكتشاف بعض الجذور القديمة للأشخاص، يكشف عن سجل إجرامي لبعض أهل القتيلة، كما سيتسبب الخوف من التورط في القضية في ارتكاب شقيق المتهم الأول لجريمة قتل.

استطاع المخرج السوري السدير مسعود ضبط إيقاع العمل على مدى الحلقات الخمسة عشر، كما استطاع توظيف إمكانات أبطال العمل جيدا.. في الدور الرئيس نجح باسل خياط في أداء دور ضابط الشرطة المتمكن الذي يعاني من عقدة هجر الأب له، وهو في مرحلة الطفولة، وانعكاس ذلك على فشل زواجه، وسوء علاقته بابنته الطفلة المريضة.. وتألق باسم سمرة كعادته في دور ليس ببعيد عن أدوار سابقة له، كما أجاد التعبير عن الحزن الشديد والقلق والتمزق الداخلي والخوف من الماضي والرغبة في الانتقام؛ بصورة خلت تماما من أي افتعال.. وتألقت ريهام عبد الغفور في دور الأم المكلومة في ابنتها.. وإن كانت مساحة الدور لا تتناسب مع إمكانات الفنانة التي تحتل المرتبة الأولى حاليا بين نجمات الدراما العربية؛ بعد النجاح الكبير الذي حققه مسلسل وش وضهر الذي لعبت فيه دور البطولة المطلقة.. ممن كان لهم نصيب كبير من الإجادة في هذا العمل الفنان حمزة العيلي في دور عم القتيلة؛ إذ استطاع حمزة تحقيق أكبر قدر من الاستفادة من مساحة الدور التي أتيحت له، وبدا واثقا من أدائه في كل مشاهده، ولم يفلت خيط الإجادة ما يجعلنا نأمل في أدوار أخرى له أكبر مساحة في قادم الأيام.. وفي دور الضابط المساعد حضر تامر نبيل بأداء منضبط ومتوازن.. أما الثلاثي ياسر ماهر ومحمد علاء وخالد كمال.. (عائلة سليمان) فقد جاء أداؤهم على نحو رائع ومناسب تماما للصراع الذي كانوا يخوضونه للاستحواذ على رئاسة أحد الأندية الرياضية الذي كانت القتيلة وأصدقاؤها  يترددون عليه، ويمارسون فيه الأنشطة الرياضية، ولكنه يتحول على يد أبناء الطبقة إلى وكر للرذائل وتعاطي المخدرات.

وبما أن إحدى شخصيات العمل الرئيسة هي شخصية “سلمى” الفتاة القتيلة التي كانت إحدى مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي– فمن الجائز أن نبدأ من تأثير تلك المواقع على الشباب في عصر الانفجار التكنولوجي الذي عزز بقوة الفجوة بين الأجيال.. ربما لم نلتفت إلى خطورة تلك المواقع التي ظهرت بافتراض وجود حالة  قائمة من القطيعة بين الناس؛ فإذا بها تزيد من هذه الحالة وتضيف إليها حالة أخرى تصل إلى مرحلة الصراع بين جيل الآباء وجيل الأبناء الذي أصبح يرى من خلال هذه المواقع أن الكسب السريع بل الثراء الفاحش أمر في المتناول، وأن الأمر لا يستحق كبير عناء يبذل في دراسة أو عمل.. الأمر من البساطة بمكان.. صناعة المحتوى على “السوشيال ميديا” وجني الأرباح الطائلة دون جهد كبير.. يستلزم الأمر أن تكون حياة الشاب أو الفتاة متاحة بكل تفاصيلها للمتابعين الذين كلما زاد عددهم ازدادت المشاهدات والأرباح.. يحتاج الأمر أيضا إلى إحداث جو من الإثارة لكسر الملل وتشويق المتابعين.. وكثيرا ما تتطور الأمور إلى ما لا تحمد عواقبه.

عائلة “سلمى” عائلة محافظة؛ فالأب صاحب ورشة كبيرة في منطقة الحرفيين؛ ليس له أي نشاط خارج إطار العمل والأسرة، والأم “جيهان” سيدة طيبة ربما تكون محدودة الثقافة برغم كونها مدرسة جغرافيا؛ إلا أنها لا يشغلها عن بيتها وأولادها شاغل.. لكنها تفشل فشلا ذريعا في السيطرة على الفتاة الجامحة التي ترغب في السفر إلى ألمانيا للعيش واستكمال الدراسة؛ دون النظر إلى رفض الأب الذي يضطر لتعيين رقيب عليها يحصى عليها أنفاسها؛ فيكتشف الرقيب كمًا هائلا من المشكلات تقع فيها الفتاة بسبب رعونتها واندفاعها، وعدم معرفتها بطبائع الناس وعدم مراعاتها لظروف مجتمعها الذي يتردى في هوة سحيقة من فقدان الهوية، وعدم القدرة على المواكبة، بالإضافة إلى أزمة كبرى وهي الفشل في إيجاد صيغة مناسبة للتعايش، بين زمنين صار كل منهما نقيضا للآخر.

منعطف خطر

لقد شهد المجتمع المصري في الآونة الأخيرة عدة جرائم مروعة؛ كانت وثيقة الصلة بمواقع التواصل الاجتماعي؛ ما جعل الكثيرين يذهبون إلى أن الانفجار التكنولوجي الذي أتاح الهواتف الذكية للجميع، وفتح تلك المواقع أمام الشباب على مصراعيها؛ لتعبث برءوسهم أوهام الثراء السريع والعلاقات المفتوحة – كان لعنة على مجتمعاتنا، وأن الفائدة المتوهمة التي تحققت من هذه النقلة الجبارة؛ كانت بمثابة قفزة هائلة نحو الجحيم.

تناول العمل الدرامي الناجح “منعطف خطر” علاقة الآباء بالأبناء من خلال عدد من النماذج.. النموذج الأول كان علاقة بطل العمل الضابط “هشام منتصر” بوالده الطبيب الذي تركه صغيرا مع والدته، وذهب ليعيش بعيدا مع امرأة أخرى.. لم يغفر “هشام” لوالده هذه الخطأ؛ رغم مرور السنوات، خاصة أن حالة جفاف المشاعر تلك التي خلّفها هجر الوالد لولده، قد انعكست بشكل كارثي على علاقة الضابط بابنته التي انفصل عن أمها.. برغم أن الطفلة مصابة بمرض ADHD   المتسبب في فرط الحركة وتشتت الانتباه.. أكد “هشام” غير مرة أن فاقد الشيء لا يعطيه؛ فلم يستطع التواصل مع ابنته التي يحتفظ بها بعيدا عن أمها لسبب غير مفهوم رغم أن علاقته بالأم ليست على هذا القدر من السوء.. لم يستطع “هشام” ذرف دمعة واحدة على قبر أبيه.. فلم يعرف الغفران الطريق إلى قلبه أبدا.

منعطف خطر

ربما كان لتدليل الأبناء عواقب سيئة؛ لكنها ربما لا ترقى لخطورة ما تخلّفه القسوة من دمار شامل في النفس البشرية.

النموذج الثاني هو نموذج والد سلمى الغارق في العمل، والذي لا يستطيع فهم ابنته ولا التواصل معها على نحو إيجابي، برغم حبه الشديد لها.. ما يجعل الطريق ينتهي بهما إلى أسوأ نهاية.

نموذج آخر يظهر في علاقة فتى النادي العابث “كريم الصباغ” بوالده رجل الأعمال الذي يوفر له كافة الإمكانات، دون أن يكلف نفسه عناء منحه أدنى قدر من التربية الصحيحة أو الرعاية الأبوية، ليتحول الفتى الوسيم إلى مجرم مدمن للمخدرات، يعبث بأعراض الفتيات ولا يتورع عن تلفيق المقاطع المصورة؛ من أجل ابتزازهن وتهديدهن بتشويه السمعة؛ لينتهي “كريم الصباغ” ضحية الأب نهاية مأساوية تليق بسجل جرائمه الحافل.

نموذج آخر على نحو بالغ من الأهمية، هو نموذج رجل الأعمال سليمان بك وعلاقته بولديه.. انعقدت آمال الرجل على ابنه الأكبر “عز” ليحقق من خلاله عددا من أحلامه المؤجلة.. لكن الأقدار تأبى ذلك بعد وقوع حادث أليم للابن يتسبب في تشوه وجهه.. يضطر الأب إلى الاعتماد على ابنه الأصغر “خالد” مدمن المخدرات الذي يعاني من حالة نفسية سيئة منذ انتحار زوجته بسببه.. يسعى “خالد” لتحقيق آمال الوالد؛ لكنه يفشل في لعب دور أخيه الأكبر.. يصطدم الوالد معه مع تعدد إخفاقاته، والقبض عليه في قضية مقتل الفتاة؛ لكنه يواجه والده بعد خروجه بأنه كان السبب الأول في تدمير حياته.. ربما كان ذلك النموذج وجها آخر لمشكلة مجتمعية مزمنة، وهي محاولة العديد من الآباء تحقيق أحلامهم الضائعة؛ من خلال أبنائهم.. كثيرا ما تؤدي هذه الحالة إلى نتائج كارثية.. فكما قالوا قديما: “يأكل الآباء الحصرم، والأبناء يضرسون”. وصدق جبران إذ قال: “أولادكم ليسوا لكم.. أولادكم أبناء الحياة.. والحياة لا تقيم في منازل الأمس”.

مسلسل “منعطف خطر” عمل درامي جيد جدا يدق جرس إنذار متأخر لخطورة ترك “الحبل على الغارب” لشبابنا في التفاعل مع الواقع الافتراضي، الذي صار مجالا خصبا للترويج للعديد من القيم الأخلاقية التي لا تناسب مجتمعاتنا.. يحتاج شبابنا إلى العمل الدؤوب من أجل بناء مستقبله على أسس متينة؛ ليدرك قيمة الكد والمثابرة والنجاح الحقيقي في حياته، ولا يحتاج إلى طفرات تحرق المراحل، وتصل به إلى ثراء سريع دون جهد؛ لن يسلمه إلا إلى هاوية سحيقة يتردى فيها، دون سبيل للنجاة.. أما الآباء فعليهم أن يبذلوا جهدا كبيرا لتجسير تلك الفجوة التي أحدثتها الثورة المعرفية مع الجيل الجديد، عليهم تفهّم تطلعات هذا الجيل وترشيدها، والحيلولة دون انفلاتها.. على الآباء أيضا إبداء المرونة إزاء سلوكيات ربما تبدو غريبة عليهم؛ لكنها صارت جزءا من شخصية الجيل الجديد الذي افتقد القدوة في زمن التردي، وانهيار القيم الذي تطفو فيه أسوأ النماذج على سطح المستنقع الراكد.. فيراها البعض –ممن عميت بصائرهم– نجوما لامعة.. ويراها الشباب الغر قدوة يحتذونها؛ فتستبد بهم الأماني قبل السقوط المؤلم على أسنة الواقع اللاهبة.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock