أول ما يواجهنا عند التهانوي (محمد علي الفاروقي)، الذي توفي في القرن الثاني عشر الهجري، هو اهتمامه الواضح بمجال تصنيف العلوم.. بل إن كتابه الشهير: “كشاف اصطلاح الفنون”، هو أقرب ما يكون إلى دائرة معارف لا غنى عنها للباحثين في مجال تصنيف العلوم وبيان أنواعها وما يتفرع عنها، من قريب أو من بعيد.
ففي هذا الكشَّاف نجد التهانوي يتحدث عن العلوم المدونة ويذكر موضوعاتها، ويفرق بين العلوم العربية وغير العربية، والعلوم الشرعية وغير الشرعية، والعلوم التي تعد أصلا وتلك التي تعد فروعا.
كما نجده يميز بين العلوم “المحمودة” والعلوم “المذمومة”. ويرى أن العلوم المحمودة، منها ما يعد فرض عين، ومنها ما يعد فرض كفاية. ويذكر لنا قول الرسول: – صلى الله عليه وسلم – “طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة”.
فرض العين والكفاية
وكما يعدد لنا التهانوي أقوال المتكلمين والمفسرين والمحدثين والصوفية حول المقصود بالفريضة، فإنه يميز بين فرض العين الذي يتبلور أساسا حول العلوم الدينية الشرعية، وفرض الكفاية الذي يتمثل في مجموعة أخرى كالطب وعلم الحساب والمواريث.. إلخ. أما العلوم المذمومة، فإن من بينها السحر، وعلم النجوم الذي يحاول التعرف على الأحداث المستقبلية في حياة الإنسان.
والواقع أن التهانوي في تقسيمه للعلوم، إنما يكشف لنا عن اطلاع واسع ونظرة عميقة.. فهو في تصنيفه للعلوم، لم يكن مجرد متابع للتراث اليوناني، بل كان مضيفا إلى هذا التراث دراسة دقيقة في علوم اللغة العربية، والعلوم الشرعية. ويرى أن العلوم تتمثل في علوم اللغة العربية والعلوم الشرعية وعلم المنطق وعلم الحكمة أو الفلسفة النظرية.
وهو يتحدث حديثا مستفيضا عن كل نوع من هذه الأنواع، ويفرع عن كل منها مجموعة من الفروع.. فعلم اللغة العربية، هو المسمى بـ”علم الأدب”، وهو علم نتجنب به الخلل في كلام العرب لفظا أو كتابة، ويتمثل في علوم اللغة والصرف والاشتقاق والنحو والمعاني والبيان والعروض والقافية، وغيرها.
والعلوم الشرعية، أو العلوم الدينية، هي العلوم المدونة التي تذكر فيها الأحكام الشرعية والاعتقادية وما يتعلق بها.. وتتمثل في علم الكلام (علم أصول الدين) وعلم التفسير وعلم القراءة وعلم الإسناد وعلم الحديث وعلم أصول الفقه، وعلم الفرائض (المواريث).
ومن أصول الرياضيات: علم العدد (الحساب) وعلم الهندسة وعلم الهيئة (الفلك) وعلم الموسيقى والآثار العلوية والموجودات الطبيعية غير الحية؛ وكذلك الحية كالنبات والحيوان والإنسان. ومن فروع الطبيعيات: علم الطب والكيمياء.. إلخ.
الحكمة النظرية والعملية
أما في ما يتعلق بالحكمة أو الفلسفة نجد أن التهانوي يقدم لها تفسيرا يتميز به عن غيره من المفكرين العرب ممن اهتموا بمجال تصنيف العلوم.. إذ أنه يصنفها إلى نوعين: الحكمة أو الفلسفة “النظرية”.. والحكمة أو الفلسفة “العملية”.
الأولى الحكمة أو الفلسفة النظرية.. تتمثل في الإلهيات (الميتافيزيقا) والرياضيات والطبيعيات (السابق الإشارة إليهما). وكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة له أصول وفروع. ومن أصول الإلهيات: إثبات وجود الله تعالى، وبيان ارتباط العالم “الفلسفي” بالعالم “العلوي” وفروعه: بيان كيفية الوحي، وكيفية وجود البعث أو الخلود.
والثانية الحكمة أو الفلسفة العملية.. فتتمثل في ثلاثة علوم، هي الأخلاق، وعلم تدبير المنزل ـ أي الحكمة المنزلية ـ والسياسة. وهي تختلف باختلاف النظر إلى الفرد. فإذا نظرنا إلى الفرد في حد ذاته، أي من جهة سلوكه وتصرفاته، فهذا هو علم الأخلاق. وإذا نظرنا إليه داخل جماعة متشاركة في المنزل، فهذا هو علم تدبير المنزل. وإذا نظرنا إليه في المجتمع أو الدولة، فهذا هو علم السياسة المدنية أو الحكمة السياسية، أي علم السياسة.
والواقع أن التهانوي قد بذل جهدا كبيرا في تحليل وبيان موضوع كل علم من هذه العلوم. ولم يكن هذا الجهد ليأتي بهذا الشكل الذي قدمه التهانوي، عبر كتابه “كشاف اصطلاح الفنون” لولا ثقافته الواسعة، وغزارة اطلاعه سواء في مجال الثقافة الدينية الإسلامية، أو في مجال الثقافات الأجنبية الأخرى، ومن بينها الفلسفة اليونانية.
هذا، وإن كان يشير إلى المكانة التي يتمتع بها التهانوي، كواحد من أولئك الباحثين البارزين الذين وضعوا بصماتهم في مجال تصنيف العلوم عند العرب، مثل: الكندي (رسالة في كمية كتب أرسطوطاليس وما يحتاج إليه في تحصيل الفلسفة) والفارابي (إحصاء العلوم) وابن النديم (الفهرست) والخوارزمي (مفاتيح العلوم) وابن سينا (في أقسام العلوم العقلية) وابن رشد (الطبيعة، والميتافيزيقا) وغيرهم.. إلا أنه –في الوقت نفسه– يؤكد على أهمية “علم تصنيف العلوم” عند العرب.
بل، لا نغالي إذا قلنا: إن تاريخ تصنيف العلوم عند العرب يوازي تاريخ الفكر الفلسفي والعلمي عندهم.. وإلا كيف نفسر اهتمام الكندي بتصنيف العلوم، وهو أول فلاسفة العرب؟!