رؤى

إبراهيم باشا ابن محمد علي.. عبقرية عسكرية صنعت الأمجاد (1-5)

يقول البارون دوبوا لوكومت عن إبراهيم باشا أنه كان عربي الهوى اختار أن يكون مصريا بعاطفة قوية وإدراك عميق ودِرَاية نافذة، وكان يرفض أن يُنسب لأي بلد آخر، خاصة تركيا التي عاب عليه البعض، الطعن فيها.. فكان يقول: “أنا لست تركيًّا.. لقد جئت إلى مصر صبيًا، ومنذ ذلك الحين مَصَّرَتْنِي شمسها، وتغيّر دمي، حتى أنه صار دمًا عربيًّا”. وعندما كَاتَبَ القائد الفذ أباه، أثناء حصار عكّا، بعد تواتر الأخبار عن الحشود العثمانية التي جهّزها السلطان؛ للحيلولة دون وقوع المدينة الاستراتيجية في قبضة الجيش المصري- حملت رسالته عبارات ملئوها الثقة في نفسه ورجاله الأشداء.. كان من بينها “… إن العالم كله لا يضم مثل هذه الكوكبة من الجنود البواسل من أبناء العرب، الذين أشرف بأن أكون قائدا لهم”. يضيف البارون لوكومت أن إبراهيم كان يجاهر بالدعوة إلى إحياء القومية العربية، وإعادة بعث روح الأمة الواحدة، لمواجهة الأطماع والتحديات التي تحيط بها.

ويعتبر المنصفون من المؤرخين، إبراهيم باشا أحد أعظم القادة العسكريين على مر التاريخ.. ليس لانتصاراته الخالدة التي حققها في شبه الجزيرة العربية والسودان وبلاد اليونان وحروبه في الشام ضد الدولة العثمانية، التي شارف على دخول عاصمتها منتصرا- فحسب؛ بل لما أثبته من تفوق خططي وتكتيكي في ميادين المعارك، ربما لم يسبقه إليه قائد عسكري في ذلك الزمان.. في هذه السلسلة سنتعرف عن قُرب على أهم إنجازات إبراهيم باشا العسكرية، والمعارك الحاسمة التي خاضها، وكان النصر حليفه فيها.

أعلن محمد بن سعود أمير الدرعية قيام دولته في 1744، بعد اتفاق وقّعه مع محمد بن عبد الوهاب الذي كان قد قدم من العيينة فرارا من حاكم الحسا..  ونصَّ الاتفاق على أن يتبنى الأمير دعوة الشيخ ويناصرها بحد السيف، على أن يقر له الشيخ بالسيادة بين العرب.. وخلال نحو عقدين من الحروب ضد القبائل، انتشرت الدعوة الوهابية في ربوع نجد؛ فدانت السيطرة للدولة الناشئة.. وتوافي المنية ابن سعود في 1765، ليخلفه ابنه عبد العزيز الذي كان ذا ميول توسعية حدت به إلى السيطرة على الحجاز بعد إحكام قبضته على نجد، ثم التوجّه إلى أطراف العراق، حتى امتد نفوذه إلى البصرة، ما أغراه بالزحف بقواته على كربلاء والاستيلاء عليها عام1801، وإعمال القتل والتنكيل في أهلها، وقد استمرت أعمال النهب والسلب في المدينة لفترة، أمر خلالها عبد العزيز بهدم مسجد الحسين، ونهب ما في قبته من الجواهر الثمينة والذخائر النادرة.. وكانت نهاية عبد العزيز على يد شاب شيعي تسلل إلى الدرعية، وترصده في المسجد في صلاة العصر وطعنه عدة طعنات أودت بحياته.

تمثال إبراهيم باشا

واصل سعود بن عبد العزيز نهج أبيه التوسعي، فوصل حتى حدود مسقط، وشاطئ الخليج العربي واحتل الطائف.. حتى استطاع في 1803، السيطرة على مكة والمدينة.. في ظل ضعف الدولة العثمانية التي فشلت في مواجهته عندما أوعزت لسليمان باشا والي العراق بتسيير حملة عسكرية نحو الحسا؛ لكن الحملة نالت هناك هزيمة نكراء وعادت تجر أذيال الخيبة.

واستمر التوسع حتى وصلت جيوش آل سعود، عسيرا واليمن (جنوبي الجزيرة) وحدود فلسطين شمالا، ولم تجد دعوتهم صدى في بلاد الشام؛ بعد تواتر أنباء ما فعلوه في كربلاء ومدينة رسول الله من أعمال القتل والسلب والنهب.

اتجه العثمانيون إلى محمد علي، مطالبين إياه بالتدخل العسكري لوقف الخطر السعودي الوهابي، خاصة بعد تعطيل مراسم الحج لرعايا الدولة العلية، وقصرها على أتباع الوهّابية.. كانت العلاقة بين محمد على والعثمانيين شديدة التوتر، فهو لا ينسى أنهم حاولوا مرارا إزاحته عن حكم مصر، ولم يترك العثمانيون هذا الأمر إلا بعد أن أدركوا أن محمد علي قد وصل إلى درجة من القوة؛ يصعب معها اقتلاعه من الحكم، وربما كانت الدعوة المتكررة له بالحرب في الجزيرة العربية، على مدى قرابة السنوات الأربع- بدأت في ديسمبر1807وانتهت باستجابته وخروج الحملة في نهاية سبتمبر1811-  قد هدفت إلى إضعافه وإشغاله في حرب طويلة تستنزف قوته الناشئة؛ فيتقلص طموحه التوسعي الذي لم تخطئه عيون الأستانه.

محمد علي باشا
محمد علي باشا

ويذكر المؤرخ الفرنسي (جي فارچيت) أن السلطان العثماني قد أرسل إلى محمد على في مطلع عام1811، خطابا يعده فيه بإصدار مرسوم يمنحه بموجبه ملك مصر هو وأسرته من بعده، إن هو نجح في القضاء على دولة السعوديين وإعادة الهيبة والمكانة للدولة العثمانية في العالم الإسلامي، وربما كان هذا الوعد القاطع هو ما دفع محمد على إلى الإسراع بتجهيز الحملة التي بدأت التحرك صوب ميناء ينبع، أواخر سبتمبر من العام ذاته وعلى رأسها طوسون باشا ابن محمد علي الذي كان مازال فتى في السابعة عشرة من عمره.

وعلى مدار أربع سنوات خاض الجيش المصري العديد من المعارك في أنحاء الجزيرة، حقق خلالها انتصارات كبيرة، كما مُنِي بعدد من الهزائم المريرة، حدت بمحمد علي أن يتوجه بنفسه لقيادة الجيش هناك.. وفي مطلع العام 1815، وبعد انتهاء مراسم الحج.. اندلعت نيران المواجهات مجددا، وكان السعوديون قد جمعوا قرابة العشرين ألف مقاتل بقيادة فيصل بن سعود بين بسل وتربة.. وعندما بلغت الأخبار محمد علي خرج على رأس جيش قوامه أربعة آلاف مقاتل، وعند بسل -قرب الطائف- دارت رحى معركة من أمجد معارك التاريخ المصري، استطاع فيها المصريون إلحاق هزيمة ساحقة بالسعوديين الذين فروا بعد سقوط ستمئة قتيل ووقوع عدد كبير منهم في الأسر، على إثر ذلك احتلت القوات المصرية تَرَبة ورنيه وبيشه وقنفذه. وكان طوسون باشا قد حاصر الرس، إلا أن الأمر انتهى إلى إعلان الهدنة بين الطرفين، وعودة محمد على بشكل مفاجئ إلى مصر بعد أن وصلته أنباء عن مؤامرة كبرى تحاك ضده يتزعمها شخص يدعى لطيف باشا.

بعد القضاء على المؤامرة، التي اكتنفها الكثير من الغموض، وفشل حصار الرس واعتذار طوسون باشا عن مواصلة قيادة الحملة، واستئذانه في العودة إلى مصر- قرر محمد علي إرسال إبراهيم باشا على رأس حملة جديدة لحسم الأمر الذي تأخر إنهاؤه لسنوات.

أعد محمد على لتلك الحملة إعدادا جيدا استغرق قرابة الستة أشهر، جُمع خلالها كل ما ستحتاجه الحملة من مؤن، حمِّلت على المراكب النيلية من بولاق إلى قنا، ومنها برا إلى ميناء القصير محمولة على 6000جمل أهدتها إلى الحملة قبيلة عرب العبابدة، وكان إبراهيم باشا قد نجح في تجنيد حوالي 2000 من فلاحي أسيوط؛ وذلك أثناء سير الحملة.

كان وصول الحملة إلى ينبع نهاية سبتمبر1816، ويذكر الرافعي أن الحملة ضمت ضابط أركان الحرب الفرنسي مسيو فيسيير، كما ضمت عددا من الأطباء الإيطاليين.

اتجه إبراهيم باشا من ينبع إلى المدينة، وزار المسجد النبوي وأظهر تدينا وانشراحا بزيارة  قبر الرسول، ثم توجه إلى الصويدرة التي اختارها مركزا للقيادة، وكانت القبائل البدوية بين الصويدرة وينبع قد انحازت للوهابيين، بُعيد عودة طوسون باشا إلى مصر، ما اضطر إبراهيم باشا لإرسال قوة قوامها 2000 جندي هزمتهم شر هزيمة، وتم إخضاعهم وتأمين الطريق، ثم توجه إبراهيم باشا بقواته إلى الحناكية وعسكر فيها، وكان السعوديون قد أعادوا احتلالها، فدخلها دون مقاومة إذ آثرت حاميتها الانسحاب إلى الرس، التي تحصنت بها قواتهم، بعد أن اتخذها عبد الله بن سعود معسكرا عاما.

الرافعي عصر محمد علي

اشتبك الجيش المصري مع القوة المدافعة عن الرس في معركة حامية سرعان ما انتهت بانتصار الجيش المصري؛ نظرا لفارق التسليح الهائل، ثم حاصرت القوات الرس، غير أن السعوديين أظهروا صمودا بطوليا في هذا الحصار الذي استمر نحوا من ثلاثة أشهر ونصف، لدرجة أن القوات المصرية فقدت 2400 جندي، بينما لم تتجاوز خسائر الوهابيين 160 مقاتلا!!

من العوامل التي أدت إلى تفاقم الخسائر في الجيش المصري، انتشار الأمراض في صفوف الجنود وتعاقب الأعاصير، ما اضطر إبراهيم باشا إلى رفع الحصار عن الرس ووقف القتال وإعلان الهدنة، والقبول بشروط الصلح التي عرضها عبد الله بن سعود، وهي أن تبقى الرس على الحياد دون أن تدخلها القوات المصرية، وفي حالت ما إذا تمكّن المصريون من دخول عنيزة، تسلم الرس للمصريين دون قتال.

توجه إبراهيم باشا بالجيش إلى عنيزة واحتل الخبراء في طريقه، ولم يدم حصاره لعنيزة سوى ستة أيام، سلم بعدها الحاكم المدينة للجيش المصري بعد أن وافق إبراهيم باشا على خروج الحامية بأمان إلى حيث شاءت، وتسليم الحاكم للمؤن والذخائر الموجودة بالمدينة، بعد ذلك اتجهت قوة من الجيش المصري لاستلام الرس دون قتال وفق شروط الصلح المذكور آنفا.

كان لدخول عنيزة عدة نتائج هامة، إذ انسحب عبد الله بن سعود إلى الشقراء، وعمل من هناك على تحصين الدرعية آخر معاقل الوهابيين، كما أعلنت القبائل في منطقة القصيم انحيازها للجيش المصري، ولم تبد الحامية الوهابية في بريدة مقاومة تذكر، إذ سلمت المدينة للجيش المصري بعد مناوشات محدودة، ثم اتجه الجيش المصري إلى الشقراء ففتحها بعد حصار قارب الشهر، وقصف مدفعي عنيف هدم المدينة، ما اضطر أهلها للتسليم والنزول على شروط إبراهيم باشا على أن يتعهدوا بعدم حمل السلاح مجددا ضد الجيش المصري، وفي حالة ما إذا وقع منهم ذلك صارت دماؤهم مستباحة، ووصلت الأخبار إلى محمد علي بسقوط الشقراء في أيدي الجيش المصري؛ فسرَّ سرورا عظيما.

في طريقه لحصار الدرعية رأى إبراهيم باشا أنه من الأفضل أن يدخل ضرمة، نظرا لما بها من المؤن والجياد حتى لا يستطيع السعوديون اتخاذها مركزا لهم إن هم انكسروا أمام قواته في الدرعية، ولكن ضرمة أبدت صمودا كبيرا، ما اضطر إبراهيم باشا لقصفها بالمدفعية ودخولها عنوة، وإباحتها بعد ذلك للجند جزاء امتناعها وقتل أهلها لعدد كبير من جنود الجيش المصري، ويذكر بعض المؤرخين أن الجند قتلوا أهل ضرمة عن آخرهم!

ابراهيم باشا

حاصر إبراهيم باشا الدرعية بعد شهرين قضاهما رغما عنه في ضرمة بسبب سوء الأحوال الجوية، وكان قوام قواته 5500 من المشاة والفرسان، مزودين باثني عشر مدفعا، نصبت حول المدينة المنيعة ذات الأحياء الخمسة المحصنة كل على حدة.

استمر حصار القوات المصرية للدرعية قرابة الشهرين تخلله حادثة انفجار مستودع الذخيرة الرئيس، لكن إبراهيم باشا استطاع السيطرة على الموقف، إذ ألقى في روع جنوده أن النصر حليفهم، وأنهم لابد مدركوه؛ حتى لو وصل الأمر إلى قتال الوهابيين بالسلاح الأبيض، ثم سار بطلب المدد من المواقع التي تمركزت فيها قواته، كضرمة والشقراء وعنيزة وبريدة ومكة والمدينة وينبع.

كما أرسل إلى والده يستعجل الإمدادات، فأخبره محمد على أنه سيرسل إليه خليل باشا على رأس ثلاثة آلاف مقاتل لنجدته. لم يَرُق هذا الخبر لإبراهيم باشا إذ رأى أن ألأمور أوشكت على الانتهاء لصالحه، وأن سقوط الدرعية، ومن ثم زوال دولة السعوديين الأولى بات وشيكا، فلماذا يشاركه هذا “الخليل” باشا ثمار كفاحه الطويل؟

سقوط الدرعية وزوال الدولة السعودية الأولى

أراد إبراهيم باشا أن ينهي الأمر بأسرع ما يكون للسبب السالف ذكره، ورأى أن أفضل وسيلة، لدخول الدرعية هي مهاجمة أحيائها المنيعة حيا حيا، حتى يُسقطهم تباعا، وبالفعل نجح في إسقاط ثلاثة أحياء من أصل خمسة، ما كان له أبلغ الأثر في انهيار مقاومة السعوديين، وكان قرارهم بالتسليم للجيش المصري في التاسع من سبتمبر 1818، على أن يُبقِى القائد المظفر على المدينة، دون التخريب والهدم، وألا ينال أهلها بأذى، وقبل عبد الله بن سعود بتسليم نفسه، ليسلّم إلى القاهرة التي سترسله بدورها إلى الأستانه؛ ليلقى حتفه هناك بأمر السلطان العثماني.

يذكر الرافعي أن محمد علي لم يفِ بعهود إبراهيم باشا في شروط الصلح، فأرسل إليه قبل مغادرته الحجاز يأمره بهدم حصون الدرعية وأسوارها، وتخريب منازلها، وأن يرسل أخوة عبد الله بن سعود إلى القاهرة، فنزل إبراهيم باشا على رأي أبيه، ونفذ ما أمره به حرفيا.

دام حصار الجيش المصري للدرعية قرابة الأشهر الستة، وما إن سقطت حتى تبعتها بقية المدن التي اتخذها الوهابيون معاقل لهم، وفرض إبراهيم باشا سلطان دولة أبيه على الجزيرة العربية بكاملها، بعد معارك مريرة خاضها الجيش المصري على مدى سبع سنوات كاملة قدم فيها آلاف القتلى والجرحى، وأنفق خلالها من الأموال ما يجل عن الحصر، إلا أن ما تحقق من نتائج من هذه الحرب الطويلة، كان يستحق كل تلك التضحيات، وربما أكثر.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock