“خلال تتبعي للمفاهيم التي تبناها الأوروبيون حول نبي الإسلام محمد – انتابني الذهول من جهلهم المطبق، وعدوانيتهم الواضحة، وأحكامهم المسبقة المتأصلة، وتحزبهم الطاغي ضد خصومهم. وهذا لا ينطبق فحسب على الشعب الجاهل والساذج؛ ولكنه ينطبق أيضا على أكبر علمائهم وفلاسفتهم ورجال الدين والمفكرين والمؤرخين؛ حتى أنه خلال القرون التي شهدت انطلاق الفكر الأوروبي من القرن الثاني عشر، وحتى القرن السابع عشر.. لم يكن لدى أي من هؤلاء المفكرين، الشجاعة في تحري المعرفة الحقة والموضوعية عن الإسلام ومؤسسه؛ فلا ألبرت الكبير ولا توماس الأكويني ولا روجر بيكون في القرن الثالث عشر، ولا فرنسيس بيكون ولا بسكال ولا اسبينوزا في القرن السابع عشر– لم يحاول أي من هؤلاء أن يبذل جهدا لفهم الإسلام مع أنهم كانون يعرفون بشكل أو بآخر الفلاسفة والعلماء العرب ولم يدخروا وسعا في مهاجمة آرائهم ودينهم”.
بهذه الكلمات افتتح عبد الرحمن بدوي مقدمة كتابه “دفاع عن محمد –صلى الله عليه وسلم– ضد المنتقصين من قدره” الذي كتبه بالفرنسية وأعقبه بكتاب آخر كُتب بالفرنسية أيضا هو “دفاع عن القرآن الكريم ضد منتقديه” وذلك بعد بلوغه -رحمه الله- سن الثمانين.
وكان الفيلسوف الكبير المولود في دمياط عام 1917، قد قضى أكثر من ستين سنة في عداء معلن مع الإسلام والحضارة العربية، معتنقا الفلسفة الوجودية.. لكن تحولا فكريا كبيرا قد طرأ عليه في سنوات حياته الأخيرة، فألف الكتابين المشار إليهما آنفا؛ كما وعد وهو على فراش المرض في القاهرة، بعد عودته من باريس أنه إذا امتد به العمر سيكتب عن الإسلام وحضارته، مسقطا كل دعاوى الغرب الذي ديست عقلانيته وموضوعيته بالأقدام –حسب قوله– في لُجة الهجوم المرضي على محمد ودينه، حتى ممن يعتبرهم الغرب علماء كبارا مثل: فرانسيس بيكون وهوجو دوجروت وهوتنجر وشبرنجر وغيرهم.
“من النادر أن يقبل الناس الحقيقة إذا تعارضت مع مصالحهم” بهذه المقولة يبدأ الدكتور بدوي دفاعه المنهجي عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم؛ مفندا بكل ما أتي من علم ومقدرة عقلية، تاريخا كاملا من الحقد والأكاذيب والتضليل الغربي؛ مؤكدا أن هذا الكم الهائل من الركام المخاصم للعلم والحقيقة الذي خلَّفه هؤلاء الكتاب البيزنطيون والأوروبيون على مدى اثني عشر قرنا، والذي تمثّل في الهجوم على الصعيد الأيدلوجي، والصعيد الدعائي – كان بدعم مباشر من رجال الدين المسيحي في البلاد التي سيطر عليها المسلمون مثل: يوحنا الدمشقي، وثيودور أبو قرة وإلياس وعبد المسيح الكندي وغيرهم، وقد سار على هذا النهج الذميم قساوسة أوروبيون منذ القرن الثاني عشر الميلادي، وحتى اليوم.
واستبعد بدوي من نقده، الأعمال التي كتبت لأهداف دفاعية خاصة بإثبات العقيدة المسيحية مثل: أعمال السير موير، والأب لامانس، كذلك الخاصة بالأيدولوجية الماركسية مثل: أعمال برتهولد، وبلاييف، وبيرتلز، استبعد كذلك أعمال الموتورين مثل: الأب الدومنيكاني ثيري الذي كان يكتب تحت اسم مستعار هو حنا زكريا.. وقد اختار فيلسوفنا تلك الأعمال التي يمكن وصفها بالعلمية، حتى ولو كانت تلك الصفة لا تنطبق إلا من حيث التسمية التي أطلقها كُتابها عليها.
ووفق منهجه العلمي الصارم أثبت د. بدوي شناعة جهل هؤلاء وموت ضميرهم العلمي، واندفاعهم الديماجوجي نحو الدعاية الرخيصة بثبات مريب؛ يقدح بقوة في كل ما أنتجوه، واعتبره الغرب من بعدهم منجزا علميا يستحق التقدير.
على رأس هؤلاء يأتي فرنسيس بيكون (1561-1626) صاحب المنهج التجريبي الذي لم يتورع عن ذكر كذبة فجّة عن النبي محمد؛ زعم فيها أنه قال لقومه ذات يوم أن الجبل سيأتيه إذا هو ناداه، فلما ناداه ولم يجبه قال لهم: “إذا كان الجبل لم يأت إلى محمد؛ فإن محمدا سيذهب للجبل” ويتساءل د. بدوي كيف لرجل يدّعي أنه يقيم أسس المنهج التجريبي يروّج لفرية تافهة لا أساس لها كهذه الفرية التي مازالت تتردد على ألسنة بعض السفهاء إلى يومنا هذا.. ولا عجب في ذلك إذا علمنا أن الأسطورة التي راجت في معظم الكتابات الغربية عن النبي محمد لقرون عديدة أنه كان قسيسا يدعى سوسيو، وأن بابا روما قد أدانه بتهمة الهرطقة، ونفاه إلى جزيرة العرب، فقرر الانتقام بالدعوة لدين جديد يهدم المسيحية على رأس البابا وأتباعه! ليست هذه القصة الهزلية التي أوردها جاك دي فيتري هي الوحيدة، بل هناك قصة أخرى تقطر خبلا أوردها بيير باسكاسيو تقول أن محمدا ليس إلا أحد شمامسة الكنيسة الرومانية، وكان يدعى نيقولا الملقب فيما بعد بالمتحرر، وأنه رُشّح لمنصب البابا خلفا للكاردينال لورنز المشرف على الهلاك، لكن نيقولا لم يظهر له الاحترام والتبجيل الواجب، ما استوجب غضب البابا عليه ونفيه إلى جزيرة العرب، ليؤسس لدين جديد ويُدعى هناك محمدا.. وغير هذا كثير مما يصعب معه فهم، كيف تقبل الأوربيون كل هذه الأكاذيب، عن النبي محمد وتعاطوها لفترة ليست بالقصيرة؟!
يحمل الدكتور بدوي بشدة على أحد أهم الكتاب الأوربيين في القرن السابع عشر، وهو هوجو دوجروت الذي كتب رسالة “قانون الحرب والسلام” وكتب أيضا رسالة عن “حقيقة الدين المسيحي” باللاتينية، وهو الذي مدحه ليبني في كتابه “المذهب الذي لا يقارن” ونعته بأنه من أعظم العقليات الأوربية، كما وصف من جانب بيير بايل في كتاب “القاموس التاريخي والنقدي” بأنه من أعظم رجال أوروبا- هل يتخيل أحد أن رجلا حظي بتلك المكانة من الممكن أن يسوق هذا الكم الهائل من الأكاذيب المضحكة عن النبي محمد، منها مثلا قوله أن القرآن يقول: “أن الموت سيتحول إلى حمل سيختار مكان إقامته بين السماء والأرض”. يتساءل د. بدوي في أي قرآن قرأ هذا الرجل هذا الكلام، كذلك ادعائه أن الكتب التي تحوى عقائد الإسلام وشرائعه محرم قراءتها على الشعب، وهو يعتبر ذلك دليلا قاطعا على أن شرائع الإسلام تحوي كثيرا من الجور والعسف، هذا الرجل الذي غيّرت أعماله القانونية القانون الدولي لفترة طويلة، ما الذي أغراه ليصبح كذّابا على هذا النحو البشع يتساءل د. بدوي، وإلى من يلتمسون له العذر بالجهل يقول بدوي “لماذا إذن يهاجم الإسلام إذا كان لا يعلم عنه شيئا؟”.
وينطلق الدكتور بدوي برصانته العلمية وشراسته المعروفة؛ ليدحض دعاوى ما كتبه فرانتس بول وتور أندريا وشبرنجر بشأن صدق الرسول فيما يتعلق برؤاه للملأ الأعلى، إذ يوضح كيف كان الأول يلوي أعناق النصوص ليا ليصل إلى إثبات فرضية مسبقة، وهي تأثير الموروث “اليهومسيحي” على رسالة محمد، بينما يتوقف أندريا عند الفصل بين مشهدين لنزول الوحي أحدهما داخل الغار والآخر خارجه، دون الوضع في الاعتبار أن القرآن قد تجاوز هذه النقطة، دون أدنى إشارة، والواضح أن المشهدين يتكاملان ولا يتعارضان، أما شبرنجر فيهذي هذيانا بائسا حين يتشبث بتفسير واحد، للحالة التي كانت تعتري الرسول عند نزول الوحي، ويجزم أنها حالة مرضية أشبه بالهستيريا.
لقد قدم الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه “دفاع عن محمد صلى الله عليه وسلم ضد المنتقصين من قدره” نموذجا فريدا للدفاع العلمي الرصين عن الحقائق التاريخية والعلمية، في مقابل كم هائل من الأكاذيب والتضليل الجهول أو المتعمد، وللأسف فإن هذا العمل لم يلق من الجانب الإسلامي كبير تقدير برغم قيمته العظيمة التي أهلته ليكون هدفا لهجوم شديد في الغرب الذي فضح الدكتور بدوي زيف عقلانيته المدعاة، وموضوعيته المكذوبة.. رحم الله الدكتور بدوي وغفر له.
بطاقة تعريف:
- ولد الدكتور عبد الرحمن بدوى في الرابع من شهر فبراير عام ١٩١٧، في قرية شرباص مركز فارسكور بمحافظة دمياط، وكان ترتيبه الخامس عشر بين إخوته البالغ عددهم واحدا وعشرين أخا وأختا.
- أنهى دراسته الابتدائية عام 1929، في فارسكور ثم نال شهادة الكفاءة عام 1932، من المدرسة السعيدية في الجيزة، وفي عام 1934، نال شهادة البكالوريا من مدرسة السعيدية، وكان ترتيبه الثاني على القطر المصري.
- التحق بدوي بقسم الفلسفة بكلية الآداب، جامعة القاهرة سنة 1934.
- ابتعث إلى ألمانيا والنمسا أثناء دراسته، وعاد عام 1937، إلى القاهرة ليحصل في مايو 1938، على الليسانس بتقدير امتياز.
- عين بعد ذلك معيدا في الجامعة لينال الماجستير ثم الدكتوراه عام 1944.
- ترقى بدوي في السلك الجامعي إلى أستاذ كرسي بعد تأسيسه لقسم الفلسفة في كلية الآداب جامعة عين شمس.
- عمل مستشارا ثقافيا ومدير البعثة التعليمية في بيرن في سويسرا من مارس 1956 حتى نوفمبر 1958.
- أعماله المنشورة تجاوزت المئة والخمسين كتابا بالفرنسية والإسبانية والألمانية والإنجليزية فضلا عن العربية.
- توفي في مستشفى معهد ناصر في القاهرة صباح الخميس 25 يوليو 2002، عن عمر ناهز الخامسة والثمانين بعد عودته من فرنسا بأربعة أشهر فقط.