رؤى

عقيدة بايدن – بليكن: الغطرسة أم التواضع؟

في أغسطس الماضي نشرت صحيفة واشنطن بوست ملفا متوهجا لوزير الخارجية الأميركي الحالي بعنوان “هل يستطيع أنتوني بلينكن تحديث السياسة الخارجية الليبرالية لعالم جن جنونه؟ رؤية حول عقيدة بايدن – بلينكن”.

ويبدو أن المؤلف، وهو مراسل سابق لضواحي العاصمة، ومساهم منذ فترة طويلة في قسم الموضة بالصحيفة، هو الأنسب تماما لهذا النوع من كتابات العلاقات العامة. وهذا لا يعني أن الملف الشخصي لا قيمة له؛ فقلم الرجل يوفر سجلا واضحا لكيفية رؤية الطابق السابع من وزارة الخارجية لنفسه – وربما الأهم من ذلك، كيف يريد تقديم نفسه للعالم.

برغم أنه لا شك، في أن وجهة نظر بلينكن والبيت الأبيض في تعاملهما مع الصراع في أوكرانيا تتعارض مع الواقع.

ووصف العرض الذي قدمه بلينكن في 17 فبراير أمام مجلس الأمن الدولي بأنه أشبه بجولة دبلوماسية في القوة، وتخبرنا صحيفة  “واشنطن بوست” أن بلينكن  “بعبارات دقيقة بشكل لافت للنظر، قدم نسخته من المستقبل القريب – إليك ما يمكن للعالم أن يتوقع أن يراه يتكشف” كما لو كان يرى الأمور من كرة بلورية مروعة بشكل خاص.

وقال بلينكن: “هذه الأزمة تؤثر بشكل مباشر على كل عضو في هذا المجلس وكل بلد في العالم”. لأن المبادئ الأساسية التي تحافظ على السلام والأمن – المبادئ التي تم تكريسها في أعقاب حربين عالميتين وحرب باردة – معرضة للتهديد”.

ولكن في الأشهر التي تلت ذلك، فشل العالم في رؤيته على هذا النحو. ومما لا شك فيه أن كرة بلينكن البلورية تنبأت بعالم سوف يحتشد ردا على الغزو الروسي لأوكرانيا، متحدا خلف نظام عقوبات فرضته الولايات المتحدة يهدف إلى فرض تكاليف غير مقبولة على الاقتصاد الروسي، وبالتالي تهديد وجود نظام بوتن نفسه.

واتضح أن كرة بلينكن البلورية جيدة على نحو ما. فبعد ستة أشهر من الحرب، لا تزال روسيا بعيدة كل البعد عن العزلة. وكما ذكرت رويترز في 17 أغسطس، “توقفت الجهود الرامية إلى عزل روسيا في الأمم المتحدة”.

وذكرت رويترز أن “الدول الغربية تبتعد عن بعض التحركات المحددة، خوفا من الدعم الفاتر، حيث يشير ارتفاع معدلات الامتناع عن التصويت إلى عدم رغبة متزايدة في معارضة موسكو علنا”.

وفي الوقت نفسه، أشار “تيد جالينوس كاربنتر” من معهد كاتو مؤخرا:

إلى أن “بقية الخريطة العالمية تؤكد أنه لم تستجب أي دولة تقريبا في الشرق الأوسط أو وسط وجنوب آسيا أو إفريقيا أو حتى أمريكا اللاتينية بشكل إيجابي لضغوط واشنطن وفرضت عقوبات اقتصادية. ومن المهم بشكل خاص أن تظل قوى رئيسية مثل الصين والهند وجنوب أفريقيا وإندونيسيا والبرازيل والمكسيك على الهامش”.

وبعبارة أخرى، فإن استجابة الرئيس الأميركي جو بايدن وأنطوني بلينكن العنيفة للأزمة الأوكرانية عجلت عن غير قصد بظهور النظام العالمي الجديد في مرحلة ما بعد أميركا.

ومع ذلك، هناك القليل من المؤشرات على أنهم يفهمون ما حدث.

وتتلخص الأطروحة الأساسية لملف صحيفة واشنطن بوست في أن بايدن وبلينكن شرعا “بتواضع وثقة” في “إعادة تصور السياسة الخارجية الأميركية ورغم كل الصعاب، محاولة إنقاذ النظام الدولي الليبرالي القديم من خلال تحقيق توازن جديد بين هذين المثالين المتناقضين للغاية”.

وهناك العديد من المصطلحات لوصف مشاركة بايدن وبلينكن مع العالم، لكن “التواضع” بالتأكيد ليس واحدا منها.

وفي نهاية المطاف، فإن رفض بلينكن الواضح للانخراط في الدبلوماسية قبل وأثناء الحرب الروسية في أوكرانيا لا يشير إلى تحول نحو التواضع: فقد تحدث بلينكن ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مرة واحدة فقط في غضون ستة أشهر.

وبالمثل، فإن سياسة العقوبات التي ينفذها بايدن هي نقيض التواضع. لطالما كانت إساءة استخدام موقف الدولار من قبل مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية مصدرا للإزعاج للصديق والعدو على حد سواء. حيث اتخذت سياسة مصادرة أو تجميد الذهب الأجنبي واحتياطيات العملات منعطفًا غير مسبوق في مارس الماضي عندما جمدت الولايات المتحدة 300 مليار دولار من أصول البنك المركزي الروسي.

ومع ذلك، فإن تجميد الأصول واستبعاد روسيا من نظام الدفع الدولي “سويفت” في رأي بعض الخبراء، لم يؤديا إلا إلى تسريع عملية إزالة “الدولرة” من الاقتصاد العالمي. لأنه مع الغطرسة يأتي العدو، وأصبحت أيام “الامتياز الباهظ” للدولار كعملة احتياطية عالمية معدودة.

وعلى الرغم من ذلك، تشيد الصحيفة بالعصر الجديد من الدبلوماسية في واشنطن في عهد بايدن للإشارة إلى “تعاطف جديد مع وجهات نظر الشركاء الأجانب”.

وهذا أمر جيد وحسن، ولكن التعاطف لابد وأن يمتد إلى أعداء المرء أيضا بل إن حتمية التعاطف في الدبلوماسية الدولية تصبح أكثر حدة عند التعامل مع منافسيه.

وكما جادلت أنا والمحررة والصحفية “كاترينا فاندن هيوفيل” بينما كانت الأزمة الأوكرانية تقترب من ذروتها في ديسمبر الماضي، كان من الأفضل خدمة إدارة بايدن من خلال تبني سياسة التعاطف الاستراتيجي التي “تتطلب ببساطة أن يسأل الرئيس وفريقه للأمن القومي أنفسهم: كيف يمكن أن يكون رد فعلهم إذا كان الضغط العسكري والاقتصادي الذي تمارسه الولايات المتحدة بشكل روتيني ضد الخصوم المحددين موجها في اتجاهنا؟”.

وهذا هو النقيض تماما من عقيدة بايدن – بلينكن، والتي يبدو أنها “حافظ على أصدقائك قريبين وتجاهل أعدائك”.

وربما يكون أفضل شيء يمكن قوله عنها هو أنه بُنيت لوقت آخر. ويبدو أن هذه العقيدة ليس لديها ما تقوله عن التحدي الرئيسي الذي تواجهه الولايات المتحدة حاليا وفي المستقبل المتوسط إلى الطويل الأجل: ظهور عالم متعدد الأقطاب.

وتحاول عقيدة بايدن– بلينكن، مع هدفها المتمثل في محاولة “إنقاذ النظام الدولي الليبرالي القديم” التنقل في البيئة الجيوسياسية الحالية من خلال نظام تشغيل قديم من 20 إلى 30 عاما.

وقد لاحظ الدبلوماسي الهندي المتقاعد “إم كيه بهادراكومار” مؤخرا أنه بالنسبة للهند “فإن الخيار هو بين دور ثانوي لإدامة الهيمنة العالمية لأميركا والهيمنة الغربية على النظام الدولي، أو نظام عالمي أكثر عدالة حيث يمكن للبلدان أن تتبع مساراتها الخاصة للتنمية على قدم المساواة مع الاحترام المتبادل. ومن الهراء القول أنه بدون أن تتصرف الولايات المتحدة كشرطي عالمي، فإن “الفوضى” سوف تبدأ”.

وتنطبق ثنائية “بهادراكومار” بقوة متساوية على دول البريكس الأخرى، ودول حركة عدم الانحياز، والجنوب العالمي.

ونظرا لعدم وجود ما يمكن قوله عن العالم الناشئ متعدد الأقطاب، فإن عقيدة بايدن-بلينكن تفوت اللحظة: إنها ببساطة المزيد من الغطرسة الأميركية الملفوفة في عباءة من التواضع.

وفي النهاية، فإن السياسة الخارجية القائمة على أوهام “النظام الدولي القائم على القواعد بقيادة الولايات المتحدة” لا تعمل إلا على تشجيع أسوأ غرائز مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية في حين تعمل على تنفير بقية العالم.

كريم سعد

مترجم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock