رؤى

الصراع على ثروات القطبين.. هل هو صراع بقاء أم صراع هيمنة؟(1-2)

منذ قديم الزمان والإنسان يحاول اكتشاف مناطق جديدة، على كوكب الأرض؛ كي يعيش في رحابها، وينهل من خيراتها؛ مؤسِّسًا لممالك بشرية ما أن تقوى وتعظم؛ حتى تتجه نحو بسط نفوذها نحو أكبر مساحة ممكنة من الأرض، فما أن يتحقق لها ما تصبو إليه بعد صراعات دامية وحروب طويلة؛ حتى تظهر ممالك أخرى أقوى منها تنازعها في ملكها؛ فتقتنص منها سلطانها ونفوذها ويصبح لها السيطرة والهيمنة إلى أن تعزم على مواجهتها مملكة أخرى جديدة أقوى منها. وهكذا تنشأ الممالك وتبنى الحضارات فلا تستمر مملكة أبد الدهر قوية وعظيمة، ولا تقوى حضارة بعينها على الحفاظ على بقائها دون أن تحل محلها حضارة أخرى؛ يصنعها بشر من أقوامٍ آخرين وبلادٍ أخرى وثقافاتٍ أخرى، فلا دوام لحضارة من صنع الإنسان يذكره لنا التاريخ، ولا تاريخ إلَّا لمن ليس له دوام.

وها هي الأرض تَعْمُر أنحاؤها شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، دون أن يترك الإنسان بقعة منها لم يكتشفها بعد أو لم يحاول أن ينتفع بخيراتها. وبالرغم من وفرة خيرات الطبيعة المتنوعة التي لم يشهد لها الإنسان أي نفاذ حتى الآن إلَّا إننا على مدار التاريخ نرى أقوامًا يكتنزون خيرات لا حصر لها، ونرى في نفس الوقت آخرين قد حرمهم غيرهم من أبسط ما يضمن لهم العيش الكريم، وذلك بسبب رغبة كثيرين من الأقوياء وأصحاب النفوذ في الاستئثار بمنافع الأرض، وامتلاكها وحدهم دون غيرهم؛ علَّ ذلك يضمن لهم طول البقاء الذي يأملونه ودوام السيادة التي يرجونها، دون زوالٍ لمُلك أو ضعفٍ لحضارة. فهل سيُدوِّن التاريخ ما هو خلاف ذلك في يومٍ من الأيام؟ وهل ستشهد الأرض من يعلو فيها ويستأثر بخيراتها دون أن يكون لمُلكه زوال أو لا يكون للملأ من قومه فناء؟!

لقد أغرى العالم الأبيض المتجمد في أقصى شمال الأرض وأقصى جنوبها؛ الكثير من الرحالة والعديد من الزعماء والملوك والقادة على مدار قرون طويلة، وذلك من أجل اكتشاف ما تخفيه طبيعته البكر من ثروات وكنوز، وبالقطع كان منهم من يسعى إلى اكتشاف أرض جديدة، يبسط عليها نفوذه وهيمنته وسلطانه بعد الاستيلاء على خيراتها والاستئثار بثرواتها. واليوم وبعد تهديدات الاحتباس الحراري العالمي، ومن أجل الفرار من عواقبه التي تنذر بالجفاف وبالفيضانات والحرائق، وما ستسببه تلك الأخطار من مجاعات ستدفع بالكثيرين خلال العقود القادمة إلى الهجرة الجماعية نحو أماكن أكثر أمانًا وصالحة للعيش، فإن العالم المتجمد وخاصة قطبه الشمالي سيصبح محط أنظار ملايين البشر للاستقرار فيه.. بعدما قصدته –من قبل– القوى العظمى في العالم مكتشفة ثرواته ومنقبة عمَّا تحويه أعماقه من طاقة هيدروكربونية يتنافس الجميع على الاستزادة منها والاستثمار فيها، رغم كل التوجهات الملحة بالتقليل من استخدامها من أجل الحفاظ على البيئة من أضرار محروقاتها التي أحدثت ما يعاني العالم منه اليوم من تغير في المناخ وارتفاع في درجة حرارة سطح الأرض. فهل حقًّا بعد أقل من ثلاثة عقود سيشهد العالم هجرة ملايين البشر إلى القطب الشمالي؟!

إن التمهيد لمثل تلك الهجرة؛ لابد أن يسبقه تخطيط لكيفية امتلاك تلك الأراضي الجديدة، ومن ثم فإن القوى العظمى (مثل: الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي)، والتي عادة ما تتصارع على تقاسم ثروات العالم فيما بينها، كانوا هم أول المبادرين حديثًا لتثبيت أقدامهم في قطبي الكرة الأرضية الشمالي والجنوبي؛ من أجل الاستئثار بثرواتهما، وبالتالي فإن غيرهم من الدول لن يجدوا بعد اقتسام الغنائم المستولى عليها عنوة في تلك المنطقة البكر من العالم، سوى مواجهة مصيرهم الذي فرضته عليهم أكثر الدول استهلاكًا للطاقة الهيدروكربونية (الغاز والفحم) والأكثر تسببًا في تلويث الغلاف الجوي للأرض.

(للمزيد حول هذه النقطة يمكن الإطلاع على مقال الكاتبة بعنوان “غمائم يوليو” المنشور على هذا الموقع بتاريخ 26 يوليو 2022م، والذي اعتمد على المعلومات والأرقام الواردة في الرابط التالي).   https://arabic.cnn.com/world/article/2021/10/29/china-us-gas-emission-co2

ومثلما سبق ولم تدخر القوى العظمى في العالم وُسعًا من أجل عدم الحفاظ على الغلاف الجوي للأرض بدون ملوثات على مدار عقود طويلة، فإنها أيضًا ما زالت تسعى جاهدة من أجل الاستئثار بأكبر قدر ممكن من ثروات الأرض في مقابل حرمان الآخرين منها، وذلك بهدف بسط المزيد من نفوذها إفسادًا في الأرض وطغيانًا دون رادع أو عقاب.. وفي الحرب قد يُستباح حرق الغاز مثلما تفعل روسيا الآن وذلك كي لا يصل إلى أوروبا بعدما اعتمدت عليه سابقًا، فأين هو إذن الالتزام بالحفاظ على سلامة مُناخ الأرض الذي يُفرَض بصرامة على بقية الدول خاصة تلك التي لم تُدرَج ضمن أكثر الدول تسببًا في الاحتباس الحراري وزيادة نسبة ثاني أكسيد الكربون في الهواء؟! وكأن قوانين الحفاظ على البيئة وضعت كي يتم تطبيقها بالأساس فقط على من يلوثون البيئة بدرجة ضئيلة بينما من تسببوا من قبل في إبادة الأبرياء بقنابلهم النووية، ومن يتسببون اليوم في تجويع البشر وفي غلاء الأسعار العالمية للوقود والغذاء، وفي حرمان الجموع من تنفس هواء نظيف قد أصبح من حقهم التلاعب بمصير الكرة الأرضية وبكل من عليها؟!

القطب الشمالي وصراع القوى العظمى على امتلاك موارده الطبيعية:

إنه بالرغم من معاناة معظم مناطق الكرة الأرضية المأهولة بالسكان من التلوث برًّا وبحرًا وجوًّا، إلَّا إن العالم المتجمد في أقصى شمال الكرة الأرضية وأقصى جنوبها ما زال بكرًا وما زال غنيًّا بالكثير من الثروات الطبيعية التي تتنافس على الاستيلاء على أكبر قدر منها القوى العظمى في العالم اليوم. فاللون الأبيض الذي يكسو القطبين الشمالي والجنوبي ما زال يحمل نقاء الطبيعة التي لم يبسط بعد إنسان العصر الحديث كامل يده عليها كي يشوهها أو يدمرها، ومع ذلك فإن ذلك لا ينفي قدرته على استخراج النفط والغاز والمعادن الخام والأحجار الكريمة من هناك منذ ما يقرب من قرن من الزمان كي ينتفع بها من له السبق في الحصول عليها ويُحرَم منها من انشغل عن الوصول إليها.

والآن يدور صراع دولي محتدم بين الدول التي لها شواطئ على المحيط المتجمد الشمالي وهي: روسيا وكندا والولايات المتحدة والدانمارك والنرويج، وإذا كان ذلك الصراع لم يبدأ بسبب التغير المناخي إلَّا إنه ما زال تسابقًا علميًّا من أجل بسط النفوذ والسيادة والهيمنة على مساحة من الأرض ما زالت تحوي في باطنها ثروات طبيعية هائلة تستحق التنافس على امتلاكها، ولكن الاستئثار بها سيزيد من معاناة الكثير من الشعوب الفقيرة التي بالقطع ستزداد احتياجًا وعِوزًا طالما المنطق الذي يحكم العالم هو الاحتكار وامتلاك ما هو فوق الحاجة ثم حرمان من هم في حاجة إليه.

وإذا كان الإعلام الدولي يسلط الضوء الآن على ما يحدث بين أوكرانيا وروسيا من جرَّاء الحرب المشتعلة بينهما بعد تجاهل الذعر المصطنع من جائحة “كورونا”الذي استمر على مدار شهور طويلة، فإن حلبة الصراع الحقيقي والمحتدم بين قوى العالم العظمى الآن هي المنطقة القطبية الشمالية Arctic Region التي تقع إلى الشمال من الدائرة القطبية الشمالية  Arctic Circle(أقصى خط عرض في نصف الكرة الشمالي). وتنفرد هذه المنطقة هي ونظيرتها في أقصى جنوب الكرة الأرضية بأن فيهما مكان واحد على الأقل يستمر فيه النهار لمدة أربع وعشرين ساعة مستمرة ويحدث ذلك مرة واحدة في السنة، وكذلك الحال بالنسبة إلى الليل الذي يستمر لمدة يوم كامل في مكان واحد على الأقل هناك. وبالفعل هناك عدد قليل من البشر يعيشون في تلك المناطق القطبية، والتي اشتق اسم المنطقة الشمالية منها من الكلمة اللاتينية Arktos التي تعني “الدب”، وذلك بسبب موقع المجموعة النجمية المعروفة بالدب الأكبر فوق المنطقة القطبية الشمالية، أما القطب الجنوبي أو القارة القطبية الجنوبية Antarctica التي يغطي الجليد حوالي 98% من مساحتها فاسمها اليوناني الروماني هو Antarcticus Polus وهو مشتق من الكلمة اليونانية Antarktos  وتعني عكس الشمال.

وإذا كان المؤتمر الذي انعقد في شهر مايو عام 2008م والذي ضم دول المحيط المتجمد الشمالي الخمس من أجل وضع خطط خاصة بالأمن البحري والتنقيب عن المعادن واستخراج الغاز والنفط خاصة في ظل التسابق العلمي من أجل إحكام السيطرة على الموارد الطبيعية لهذه المنطقة – فإن ذلك يعني أنه ليست هناك أية نية لوضع خطط مستقبلية بشأن كيفية الاستفادة من المياه الغزيرة في تلك المنطقة من العالم من أجل إنقاذ المناطق التي ستعاني من الجفاف بسبب الاحتباس الحراري وتغير المناخ خلال العقود القادمة خاصة وأنها تحوي خُمس إمدادات المياه على الأرض.

وحال القارة القطبية الجنوبية لا يختلف كثيرًا عن منطقة القطب الشمالي من حيث التنافس على ملكيتها واستغلال ثرواتها ومواردها الطبيعية، فهي تخضع منذ سنة 1959م لإدارة الأطراف الذين يمثلون اثنتي عشرة دولة والذين وقعوا المعاهدة الخاصة بحظر الأنشطة العسكرية بها، وبعدم التخلص من النفايات النووية بدفنها في أرضها، والتي تهدف إلى دعم البحث العلمي وحماية النظام البيئي فيها؛ وبالتالي فإن سكانها البالغ عددهم حوالي خمسة آلاف نسمة غالبيتهم ينتمون للبلدان التي لديها محطات وقواعد بحثية هناك.

وفي تتمة ذلك المقال سنرى كيف تفوق الدب الروسي على غريمه التقليدي في قدرته على استخراج ثروات المنطقة القطبية الشمالية من خلال تطويره لكاسحات الجليد النووية التي مكنته من تحقيق السبق العلمي في إزاحة الجليد؛ ومن ثم ستضمن له تركز قوته البحرية هناك من أجل الهيمنة على الموارد الطبيعية لتلك المنطقة (وأهمها الغاز و النفط).

نيفين عبد الجواد

كاتبة وباحثة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock