فن

يوسف وهبي.. ابن الباشا صاحب السبق في المسرح والسينما

خفق قلب الصبي ذي السنوات السبع عندما علم أن جوقة سليم القرداحي، موجودة في سوهاج لعرض إحدى مسرحياتها، وقبل أن يفكر في طريقة يحضر بها العرض، سمع أباه عبد الله باشا وهبي كبير مفتشي الري يبلغ الأسرة أنهم جميعا مدعوون لحضور العرض المسرحي؛ طار الصبي فرحا لأنه سيشاهد لأول مرة في حياته عرضا مسرحيا، وسيفتح عينيه على ذلك العالم الساحر الذي سيملك عليه عقله وفؤاده لسبعة عقود تالية.

في الصفوف الأولى جلس الصبي يتابع رواية “عُطيل” بانبهار، والفنان سليم القرداحي يندمج في أداء قوامه الخطابية والتهويل، وكان ذلك ما يعرفه أهل ذلك الزمن عن الأداء التمثيلي، ويعود يوسف إلى المنزل في تلك الليلة وقد قرر أن يصير ممثلا.

دأب الصغير على تقليد عطيل كل ليلة.. وبعد عامين تحضر جوقة أخرى إلى سوهاج عرفت بفرقة التشخيص العربي؛ بطلها يدعى الشيخ أحمد الشامي. قدمت الجوقة أكثر من عرض مسرحي منها “روميو وجولييت” و”شهداء الغرام” ولشدة انبهار يوسف بروميو وجولييت.. جمع عددا من زملائه لتمثيل الرواية، وكان الحظ قد أسعده إذ أتى إلى العمل بتفتيش الري نجار يدعى “فؤاد” كان قد عمل ممثلا في السابق في بعض فرق الجوّالة.. وتقربا إلى ابن الباشا أو حنينا إلى الماضي عرض فؤاد خدماته على الصغير، وقدم له ولزملائه نصوصا مسرحية منها “روميو وجولييت” و”شهداء الغرام” وكاد الصبي يجن فرحا، وأخذ فؤاد في توزيع الأدوار، وأجرت الفرقة بروفات كثيرة إلى أن حان موعد العرض، الذي أقيم فوق سطح بيت النجار، وحضره تلاميذ المدرسة، ولاقى إعجاب الجميع.

يوسف وهبى يؤدي شخصية عُطيل
يوسف وهبى يؤدي شخصية عُطيل

تنتقل الأسرة بعد ذلك إلى القاهرة بحكم عمل الوالد، ويلتحق يوسف بمدرسة الناصرية، ويلتقي صديقه محمد كريم الذي سيصبح فيما بعد رائد فن الإخراج السينمائي في الشرق، وهو الذي سيقترح عليه السفر إلى إيطاليا لدراسة فن التمثيل، ويسافر يوسف وهبي إلى إيطاليا ولم يكن قد بلغ الثامنة عشرة من عمره بعد أن غضب عليه والده بسبب ما ألحقه بالأسرة من عار لا يمحى لعمله بـ”التشخيص”، وكانت مهنة لا تحظى آنذاك بالتقدير الكافي، حتى إن المحاكم لم تكن تقبل شهادة الممثلين.

وفي إيطاليا التحق يوسف بالمعهد، وتلقى دروسه على يد الفنان “كيانتوني” الذي حرص على صقل موهبته وتزويده بالمهارات الفنية اللازمة؛ فأشركه في العديد من العروض المسرحية، كما حرص أن تكون لديه معرفة جيدة بكل ما يتعلق بالعرض المسرحي من عناصر كالإضاءة والموسيقى التصويرية والملابس والمناظر وغيرها.

يعود يوسف وهبي إلى القاهرة عام 1921، بعد تلقيه رسالة من والدته تفيد بأن والده يحتضر ويريد رؤيته، لكن القدر لم يمهل الأب فيفارق الحياة قبل وصول يوسف بساعات قليلة، وكان مما خفف عن يوسف ما أبلغته به والدته أن أباه قد صفح عنه، والتمس له العذر فيما فعل لأنه إنما أراد تحقيق ما رآه رسالة سامية تستحق أن يهب لها كل حياته.

يوسف وهبى يؤدي شخصية راسبوتين
يوسف وهبى يؤدي شخصية راسبوتين

كان ميراث يوسف من أبيه عشرة آلاف جنيه ذهبي، استعان ببعضها في تأسيس فرقة رمسيس المسرحية التي قدمت أول أعمالها عام 1923، بعنوان “المجنون” وقد لاقت المسرحية نجاحا كبيرا، وتبعتها مسرحية “كرسي الاعتراف” التي حققت هي الأخرى نجاحا مماثلا، وتوالت الأعمال العظيمة التي كان يوسف وهبي يؤدي فيها دور البطولة والإخراج، والتأليف في أحيان كثيرة.

اهتم يوسف وهبي عند تأسيس فرقة رمسيس بتلافي كل العيوب والأخطاء التي وقعت فيها الفرق المسرحية الأخرى وأدت إلى انتهائها وتفرق أفرادها وتدهور أحوالهم، حتى وصل الحال ببعضهم إلى التسول، كما كان معنيا بتغيير وجهة النظر العامة بخصوص المسرح فمنع التدخين في قاعات العرض، وعمل على احترام مواعيد رفع الستار، ووضع ضوابط للممثل أهمها الحفاظ على المواعيد، والالتزام بالنص، وتنفيذ تعليمات المخرج، وهو ما دفع الحكومة لتكليفه عام 1933، بتشكيل فرقتها المسرحية التي كانت نواة المسرح القومي فيما بعد.

وبرغم أن مسرحيات وهبي الأولى كانت مترجمة عن أعمال عالمية لشكسبير وموليير وهنريك إبسن، إلا أنه حرص من خلالها على مناقشة قضايا مجتمعية هامة، وقد ظهر هذا التوجه جليا بعد ذلك في أكثر من عمل تناول فيه قضايا الزواج من الأجنبيات، وأطفال الشوارع، والصراع بين الضمير والمغريات، كما ظهرت في العديد من الروايات روح العداء للاستعمار، وكشف الفساد المستشري في المجتمع آنذاك.

فرقة رمسيس المسرحية
فرقة رمسيس المسرحية

تأخر توجه يوسف وهبي للسينما رغم اقتناعه بأهميتها، وكان سبب ذلك انغماسه الكامل في العمل المسرحي تمثيلا وإخراجا وتأليفا، وهناك سبب آخر أدى إلى ذلك، وهو ما نشأ بينه وبين الصحافة والرأي العام من العداء الشديد بسبب اعتزامه تجسيد شخصية النبي محمد – صلى الله عليه وسلم- في فيلم سينمائي تنتجه شركة ألمانية بتمويل من الحكومة التركية، تحت إشراف كمال أتاتورك أول رئيس للجمهورية التركية بعد إسقاط الخلافة العثمانية، كانت الأجواء قد بلغت حد الاحتقان الذي أذكاه أعداء وهبي، إذ هدد الملك فؤاد بإسقاط الجنسية عنه في حال إقدامه على هذا الأمر، بينما طالب الأزهر الشريف وزارة الداخلية بالتحقيق معه، وإصدار أمر بمنعه من السفر، كما كتبت عدة مقالات في الصحف تهاجمه؛ ما اضطره للرد في بيان يوضح فيه موقفه، وأنه يحيل الأمر إلى العلماء، مع وعد بالالتزام بما سيفتون به، وبعد فترة وجيزة أصدر وهبي اعتذارا للجميع بعد أن اعتذر للشركة الألمانية عن أداء الدور التزاما بفتوى العلماء.

كانت البداية السينمائية موفقة جدا إذ شارك وهبي صديقه محمد كريم في إعداد فيلم روائي طويل هو “زينب” ثم صنعا معًا أول فيلم مصري عربي ناطق هو فيلم “أولاد الذوات” الذي حقق نجاحا ساحقا، وقبل ذلك كان يوسف وهبي قد أسس مدينة رمسيس للسينما، وهي أول مدينة للسينما في الشرق.

وتتوالى النجاحات السينمائية بعد ذلك فيقدم وهبي فيلمه “الدفاع” الذي كتبه وأدى فيه دور البطولة، وأخرجه مناصفة مع نيازي مصطفى، ثم فيلم “المجد الخالد” الذي كتب وهبي قصته وشارك في إخراجه وبطولته عام1937، ثم يقدم الفنان الخالد أعمالا شديدة التميز مثل “ليلة ممطرة” و”ليلى بنت الريف” و”ليلى بنت مدارس” و”غرام وانتقام” الذي نال بعد حضور الملك فاروق عرضه الأول عام 1944، رتبة البكاويه. وفي العام التالي مباشرة يقدم وهبي فيلمه “سفير جهنم” بعد أن “مَصَّرَ”، “فاوست” رائعة جوته.

في العام 1953، يُنتخب يوسف وهبي نقيبا للممثلين، ثم يُختار مستشارا فنيا بوزارة الإرشاد لشئون المسرح، ويُمنح وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى عام 1960، ثم جائزة الدولة التقديرية والدكتوراه الفخرية عام 1975، كما منحه بابا الفاتيكان وسام الدفاع عن الحقوق الكاثوليكية؛ وهو أول مسلم يمنح هذا الوسام.

في عقد الستينات قدم وهبي عددا من الأدوار الكوميدية كما في فيلم “إشاعة حب” وفيلم “اعترافات زوج” وفيلم “البحث عن فضيحة”.. والحقيقة أن أداء وهبي الكوميدي كان مبهرا، بل -ربما- كان على نفس درجة إجادته للميلودراما برغم أنه لم يجرب ذلك النوع إلا بعد تجاوزه عتبة الستين.

في عام 1979، اشترك يوسف وهبي في فيلم “إسكندريه ليه” للمخرج يوسف شاهين، وقد أدى فيه دور يهودي مصري يضطر إلى مغادرة بلاده بعد أن قضى فيها حياته، ورغم قصر الدور إلا أن وهبي وضع فيه خلاصة تجربته الفنية، وأداه بشكل أظهر عمق المأساة الإنسانية للشخصية، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تقدم فيها الشخصية اليهودية بشكل إيجابي منذ يوليو1952.

وفي العام 1982 شارك وهبي بدور قصير في فيلم “السلخانة” ليصل جملة ما شارك فيه من أعمال سينمائية إلى نحو من ستين فيلما، أخرج منها ثلاثين فيلما، وألّف ما يزيد على أربعين فيلما.

أما في المسرح فقد وصل رصيده إلى ثلاثمئة وعشرين مسرحية، عمل فيها بالتأليف والإخراج والتمثيل، ونقل من خلالها فن المسرح العربي إلى آفاق لم يكن يعرفها من قبل.

وفي السابع عشر من أكتوبر عام1982، يرحل يوسف وهبي إثر أزمة قلبية بعد أن عاش ألف عام -كما في عنوان مذكراته- قضاها في خدمة الفن في دنيا وصفها بقوله: “وما الدنيا إلا مسرح كبير”.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock