رؤى

التقديم والتأخير.. مقدمة في “علم الدلالة القرءاني”

ضمن القضايا الإشكالية في التعامل مع آيات الذكر الحكيم، تأتي قضية التقديم والتأخير؛ بمعنى تقديم الكلمة في موضع، ثم تأخيرها في موضع آخر. وتبدو هذه المسألة بوضوح عبر آيات القرءان الكريم؛ إذ نراه يُقدم السماء على الأرض في موضع، وفي موضع آخر يُقدم الأرض على السماء؛ وكذلك الحال في كلمات مثل: الجن والإنس، والضُر والنفع، وغيرها كثير.

أيضا، كما تبدى بوضوح في التقديم والتأخير بالنسبة إلى أسماء الله الحسنى، مثلما هو حال خواتيم بعض الآيات الكريمة: “وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ” [النساء: 26]، و”إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٞ” [الأنعام: 83]

بل، إن المسألة لم تتوقف عند حدود الكلمات، ولكنها تجاوزت ذلك إلى التعبيرات القرءانية؛ من قبيل: “لَّا يَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَيۡءٖ مِّمَّا كَسَبُواْۗ” [البقرة: 264]، و”لَّا يَقۡدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيۡءٖۚ” [إبراهيم: 18]؛ وأيضًا، مثل: “وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ مَوَاخِرَ فِيهِ” [النحل: 14]، و”وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ فِيهِ مَوَاخِرَ” [فاطر: 12].

الدلالة القرءانية

وقد تناول كثيرٌ من العاملين في مجال الفكر الإسلامي، وخاصة الدراسات القرءانية، سواء القدامى منهم أو المحدثين، هذه المسألة عبر منظورات مختلفة، بلاغية، ونحوية، فضلا عن المنظور السياقي، وغيره؛ إلا أننا سوف نحاول، هنا في هذه الدراسة، تناول قضية التقديم والتأخير من منظور محدد، هو البحث في هذه القضية/المسألة اعتمادا على أُسس “علم الدلالة القرءاني”، الذي يتقاطع عندنا ويتكامل مع “علم المصطلح القرءاني”.

من هذا المنظور، لنا أن نُلاحظ، بداية، كيف أن القرءان الكريم يرتقي بالكلمة إلى مستوى المصطلح؛ حيث تتوحد النظرة القرءانية إلى الكلمة في كل مواضع ورودها، في آيات الذكر الحكيم؛ بما يُعبر عنه ذلك بأن كل كلمة قرءانية لها معنى واحد، أيًا كان موضع ورودها، بما يؤشر إلى مفهوم محدد للمصطلح القرءاني، ودلالة معينة لهذا المفهوم.

يعني هذا، في ما يعنيه، أن آيات التنزيل الحكيم تتضمن نظامًا مفهوميًا مختلفًا، عن النظام المفهومي الذي وضعه “الأعراب”، وسارت عليه بإتقان جُل، إن لم يكن كل، معاجم اللغة التي نتعايش بها. إذ لا يمكن إنكار أن المنظومة المعرفية القرءانية قد جاءت، لسانيًا، بـ”سياق جديد” مختلف كليًا عن السياقات اللغوية التقليدية؛ ومن ثم، فإن التغيير الحاصل في بنية معاني الكلمات، القرءانية، يعتمد على السياق الواردة فيه هذه الكلمات، الذي يؤثر في المُفردة وتتأثر به.

يعني هذا، أيضًا، أن تدبر التقديم والتأخير للكلمات والتعبيرات القرءانية، لابد من تبيان الأسباب فيه، ودلالات مثل هذه الأسباب ودوافعها. والأهم، السياق القرءاني الذي يرد فيه المصطلح، أو التعبير، سواء من حيث تقديمه أو تأخيره عن المصطلح، أو التعبير، الوارد معه في السياق نفسه.

إن المثال الافتتاحي، الذي نود من خلاله الاقتراب من دلالات التقديم والتأخير، في آيات التنزيل الحكيم، هو صفات النبي “إِبۡرَٰهِيمَ” عليه السلام، التي وردت “اثنتان” منها في سورتي هود والتوبة.

يقول سبحانه: “فَلَمَّا ذَهَبَ عَنۡ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلرَّوۡعُ وَجَآءَتۡهُ ٱلۡبُشۡرَىٰ يُجَٰدِلُنَا فِي قَوۡمِ لُوطٍ ٭ إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّٰهٞ مُّنِيبٞ” [هود: 74-75]. هنا، لنا أن نلاحظ كيف أن إبراهيم عليه السلام حاول أن يُجادل “فِي قَوۡمِ لُوطٍ”؛ وفي هذه الحال، وردت الصفة المركبة “إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّٰهٞ مُّنِيبٞ”. ومن الواضح، أن الصفة “مُّنِيبٞ”، من الإنابة، هي صفة تجمع الصفة المركبة “حَلِيمٌ أَوَّٰهٞ”؛ إذ، إن “حَلِيمٌ” من الحلم الذي هو من الأناة، أو التأني (التريث)، أما “أَوَّٰهٞ” من التأوه الذي هو من العجلة أو التعجل (التسرع).

وهذه الصفة المركبة “حَلِيمٌ أَوَّٰهٞ”، جاءت على الصيغة “أَوَّٰهٞ حَلِيمٌ”، وذلك في قوله تعالى: “وَمَا كَانَ ٱسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوۡعِدَةٖ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥٓ أَنَّهُۥ عَدُوّٞ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنۡهُۚ إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَأَوَّٰهٌ حَلِيمٞ” [التوية: 114].

وهنا، لنا أن نتأمل كيف أن التقديم والتأخير في مفردتي الصفة المركبة “حَلِيمٌ أَوَّٰهٞ”، لتُصبح على الصورة “أَوَّٰهٞ حَلِيمٌ”، إنما تأتي لتتناسب مع موقف النبي إبراهيم عليه السلام، في حالتين:

الأولى، الموقف من “قَوۡمِ لُوطٍ” الذي كان الجدال فيه لأجل “تأجيل العذاب”؛ لذا، غلب الحليم في إبراهيم على الأواه؛ ومن ثم، كان إبراهيم “حَلِيمٌ أَوَّٰهٞ” [هود: 75]. وكان الرد الإلهي على إبراهيم “يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَٰذَآۖ إِنَّهُۥ قَدۡ جَآءَ أَمۡرُ رَبِّكَۖ وَإِنَّهُمۡ ءَاتِيهِمۡ عَذَابٌ غَيۡرُ مَرۡدُودٖ” [هود: 76].

الثانية، الموقف من “ٱسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ” الذي كان فيه التعجل هو السمة الرئيسة؛ لذا، غلب الأواه في إبراهيم على الحليم؛ ومن ثم، كان إبراهيم “أَوَّٰهٞ حَلِيمٌ” [التوية: 114].

ضمن الأمثلة المتعددة في آيات التنزيل الحكيم، على التقديم والتأخير، الذي يعنينا في حديثنا هذا من المنظور الدلالي، يأتي التعبير القرءاني الوارد في سورتي النحل وفاطر؛ ففي النحل يأتي على الصورة “وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ مَوَاخِرَ فِيهِ” [النحل: 14]، أما في فاطر فيأتي على الصورة “وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ فِيهِ مَوَاخِرَ” [فاطر: 12].

وفي البحث حول أسباب التقديم والتأخر، في ما بين التعبيرين في الآيتين الكريمتين، ودوافعه الدلالية؛ لنا أن نتأمل سياق الآية الكريمة، في قوله سبحانه: “وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلۡبَحۡرَ لِتَأۡكُلُواْ مِنۡهُ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُواْ مِنۡهُ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ” [النحل: 14].

إذ، إن السياق في سورة النحل، في الآيات الكريمة التي تسبق هذه الآية، يَرِد فيه الحديث عن “وسائط النقل”؛ حيث “وَٱلۡأَنۡعَٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمۡ فِيهَا دِفۡءٞ وَمَنَٰفِعُ… وَلَكُمۡ فِيهَا جَمَالٌ… وَتَحۡمِلُ أَثۡقَالَكُمۡ إِلَىٰ بَلَدٖ لَّمۡ تَكُونُواْ بَٰلِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ ٱلۡأَنفُسِۚ… وَٱلۡخَيۡلَ وَٱلۡبِغَالَ وَٱلۡحَمِيرَ لِتَرۡكَبُوهَا وَزِينَةٗۚ…” [النحل: 5-8].

وبالتالي، جاء تقديم “مَوَاخِرَ” على “فِيهِ” (أي في: “ٱلۡبَحۡرَ”)، لتتناسب دلاليًا مع سياق الحديث عن “وسائط النقل”؛ من حيث إن “مَوَاخِرَ” هي صفة “ٱلۡفُلۡكَ”. فأصل الـ”مخر”، هو “شق الماء بصوت عن اتجاهين مختلفين”؛ و”مخرت” السفينة، تمخر (بالفتح)، وتمخر (بالضم)، مخرًا ومخورًا فهي ماخرة (مفرد مواخر)، إذا “جرت تشق الماء مع صوت”. أما “الْفُلْكَ” فهي “السفن ذات الاستدارة العالية”؛ حيث إن دلالة لفظ “فلك” تُشير إلى الاستدارة، أو المسارات الدائرية، سواء في مفردها “فَلَك” (بفتح أوله وثانيه)، أو في صيغة الجمع “فُلْك” (بضم أوله وسكون ثانيه).

أما في سورة فاطر، فيأتي قوله تعالى: “وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡبَحۡرَانِ هَٰذَا عَذۡبٞ فُرَاتٞ سَآئِغٞ شَرَابُهُۥ وَهَٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجٞۖ وَمِن كُلّٖ تَأۡكُلُونَ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُونَ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ” [فاطر: 12].

وبالتالي، جاء تقديم “فِيهِ” (أي في: “ٱلۡبَحۡرَ”، سواء كان “عَذۡبٞ فُرَاتٞ”، أو “مِلۡحٌ أُجَاجٞۖ”)، على “مَوَاخِرَ”، لتتناسب مع سياق الحديث عن البحر وأنواعه، وما أودع الله سبحانه وتعالى فيه من نِعَمْ “تَأۡكُلُونَ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُونَ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ”؛ من حيث إن ما يتعلق بالبحر من نِعَمْ، أي الضمير “فِيهِ”، يتقدم على “مَوَاخِرَ” التي هي في الأصل صفة “ٱلۡفُلۡكَ”.

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock