مختارات

رغم شكسبير وحافة الهاوية النووية.. التسوية الأوكرانية آتية “2 من 2”

بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري

نقلًا عن صحيفة عمان

حسين عبد الغني

 

 

 

 

تمت الاشارة في المقال السابق إلى ترجيح التسوية على خيار الحرب النووية الشاملة أو الجزئية للحرب الأطلسية – الروسية التي تتخذ من أرض أوكرانيا مسرحا لها. وذكرنا الأساس الأول والمتمثل في الردع النووي المتمثل في مبدأ قائم منذ امتلاك السوفييت ثم الروس أسلحة نووية وهو مبدأ “ليست هناك دولة نووية تُهزم” والمعنى هنا أن مثل هذه الدولة الكبيرة لن تهزم قبل أن تدمر معها ما تستطيع تدميره من العالم والبشر. وننتقل الآن الي الأسس الثلاث الباقية.

اقرأ أيضًا: رغم “شكسبير” وحافة الهاوية النووية.. التسوية الأوكرانية آتية! (1-2)

* كوبا وخبرة أزمات حافة الهاوية الدولية المماثلة:

– لم يكن استاذ الجيوبولتيك الأمريكي الشهير جون ميرشايمر هو المحلل الوحيد الذي قارن أو قارب منذ البداية بين الأزمة الأوكرانية وأزمة الصواريخ الكوبية ولكنه كان قطعا أسبقهم. أزمة الصواريخ الكوبية التي وقعت ١٩٦٢ بين خروشوف وكينيدي بدأت عندما نصب الإتحاد السوفيتي صواريخ في كوبا التي تنظر اليها واشنطن كجزء من حديقتها الخلفية وتهديدا وجوديا لأمنها القومي المباشر. هنا تحقق أخطر نموذج لما سمي بسياسة حافة الهاوية فاندفع خروشوف غير المسؤول بالوصول إلى حدود الولايات المتحدة وقابله اندفاع مماثل من كينيدي باستخدام الأسلحة النووية، وهنا تراجع الطرفان إلى تسوية سياسية فسحبت موسكو صواريخها من جزيرة كاسترو وسحبت واشنطن صواريخ كانت نصبتها في تركيا اعتبرتها موسكو تهديدا لأمنها.

– مضمون رؤية ميرشايمر وكل من ساروا في طريقه ممن استدعوا خبرة الأزمة الكوبية إلى النزاع الراهن هو أن توسع حلف الناتو الاستفزازي شرقا في دول أوروبا الشرقية حتى حدود روسيا وسعيه لضم أوكرانيا إلى الحلف وهي التي كانت تاريخيا جزءا من الإمبراطورية الروسية بل وعاصمة لها أحيانا يماثل بالضبط تهديد السوفييت لواشنطن بالتواجد في هافانا وأنّ على الغرب التراجع عن ضم أوكرانيا للناتو وأن يسعى الروس والأمريكيون إلى تسوية تحفظ ماء وجهيهما تماما كما فعلا الاثنان منذ ستة عقود من آلان.

حرب أوكرانيا

– ولا توجد أسباب عقلانية تقول إن حجم الدمار الشامل من اللجوء للنووي قد أصبح أقل منذ أزمة كوبا بل على العكس قد تزايدت هذه الترسانة المخيفة كما وكيفا، كما أنه لا توجد أيضا أسباب عقلانية توحي بأن العالم ومن بينه بايدن وبوتين قد فقدوا القدر الضروري من “الرشادة السياسية” الذي تحلي به أسلافهم كينيدي وخروتشوف عندما لاح خطر الشتاء النووي قبل ستين عاما في كوبا.

* التصعيد وكسب مواقع كمقدمة ضرورية للتفاوض: من استراتيجيات التكتيك المستقرة خاصة في النزاعات والأزمات الدولية ذات الطابع العسكري التي يكتشف أطرافها أنها غير قابلة للفوز الحاسم هو دفع الأمور إلى مستويات تصعيد شديدة الخطورة وشديدة الدقة في الحسابات تمهيدا لدخول المفاوضات في وضع قوة أو على الأقل في وضع ضعف غير مكشوف ولديه من الأوراق ما يساوم به. ولعل أشهر مثال على ذلك في تاريخ الحروب العربية – الإسرائيلية هذا الانتهاك الإسرائيلي الصارخ لخطوط القتال بعد الاتفاق على إعلان الهدنة في حرب أكتوبر ٧٣ على الجبهة المصرية واستغلالها الموقف ودعم معلومات الأقمار الصناعية الأمريكية لاحتلال مواقع عدة في غرب القناة لتعديل ميزان التفاوض خاصة وأن المصريين كانوا قد حققوا انتصارات مهمة في الأسبوع الأول من القتال ومال الميزان العسكري بقوة لصالح الجيش المصري.

ما يحدث الآن من تصعيد عسكري من هجمات أوكرانية مكثفة على دونباس والجنوب ومن هجمات روسية مضادة لتدمير البنية التحتية الأوكرانية من كهرباء وطرق وجسور، أو إعلان الناتو عن مزيد من تدفقات الأسلحة المتقدمة لأوكرانيا من جهة ورد الروس بإعلان التعبئة العامة وإعادة تعويض الأسلحة جهة أخرى. وما يحدث من تصعيد سياسي بإعلان روسيا عن ضم المناطق الأربعة التي احتلتها في أوكرانيا وهي خيرسون وزابورجيه ودونيتسك ولوغانسك إلى الاتحاد الروسي بعد استفتاء أجري في الأيام الماضية وكل هذه في الحقيقة ما هي إلا أوراق تفاوضية يدعم كل طرف نفسه بها في اللحظة الاخيرة أو في الساعة ال25 للمساومة بها في التفاوض أكثر مما هي مصائر نهائية للنزاع أو لهذه المناطق.

• الانهيار الاقتصادي والاحتجاج الاجتماعي في أوروبا: بتخريب خط غاز نورد ستريم 1و2 لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا وهو بمثابة شريان حياة لكثير من الدول الأوروبية سواء للتدفئة أو للصناعة سيزداد تدهور الوضع الاقتصادي العالمي الذي قد يدخل في ركود مدمر حسب تحذيرات البنك الدولي وحسب أرقام التباطؤ الفعلي التي سجلتها أهم ثلاثة اقتصادات عالمية وهم أمريكا والصين والاتحاد الأوروبي. ومع ارتفاع معدلات التضخم المذهلة في أوروبا تزداد احتمالات الاضطراب الاجتماعي مع ارتفاع وتيرة الاحتجاجات والإضرابات الشعبية والعمالية الممتدة من فرنسا وألمانيا وبريطانيا لدول أوروبا الشرقية مثل المجر والتشيك.. إلخ. الهند والصين لم يتأخرا في إبلاغ بوتين انزعاجهما الشديد من أثر استمرار حرب أوكرانيا على نموهما الاقتصادي وعلى التجارة الدولية وقد وعد بالسعي إلى نهاية قريبة للحرب. في المعسكر الآخر من المرجح أن تتجمع نذر الضغوط الأوروبية على بايدن في نهاية أشهر الشتاء الذي يري البعض أن استمرار أزمة الطاقة قد يؤدي لانهيار اقتصادي وانهيار الاستقرار السياسي وسقوط المزيد من الحكومات الغربية. العامل الاقتصادي المرتبط بالاستقرار السياسي والذي ستتضح قسوته مع وصول واستقرار “الجنرال شتاء” لشهور عدة سيضغط أيضا في اتجاه التسوية في مرحلة ما وليس في اتجاه الحرب النووية.

أوكرانيا

أفق التسوية الممكنة

منذ اللحظة الأولى للتدخل العسكري الروسي في فبراير الماضي كتبت وكتب غيري أن هذه المعركة لن تكون معركة <صفرية> ينتصر فيها طرف انتصارا ساحقا ويهزم الطرف الآخر فيها هزيمة مذلة. وسيكون على أطرافها الحقيقيين موسكو وواشنطن تجنب حرب نووية تدمر الجميع التوصل إلى تسوية تحفظ ماء وجههما وتسمح لكل منها الادعاء أمام شعبه وحلفائه في العالم أنه حقق أهدافه وعلى الأقل لم ينهزم.

صيغة الحل المقبول المشرف

١- انسحاب روسيا من دونباس بعد إعطاء دونيتسك ولوغانسك حكما ذاتيا يحترم حقوق الناطقين بالروسية وابقاء شبه جزيرة القرم تحت السلطة الروسية دون منازع.

يعطي هذا لموسكو فرصة الخروج المشرف مدعية بأنها حققت هدفها من العملية الخاصة من دونباس ووقف التمييز والقهر الأوكراني للناطقين بالروسية وتأمين هويتهم وإدارة ذاتية لشؤونهم بعيدا عن تسلط كييف التي ستحتفظ بالسيادة وتصون إقليميا وحدة أراضيها.

يعطي ذلك فرصة للروس لدحض الادعاء الغربي بأن بوتين يسعى لإقامة امبراطورية روسية على مقاس بطرس الأكبر أو يستعيد الإمبراطورية السوفيتية بمفهوم أرثوذكسي أوراسي وليس شيوعي أيديولوجي فها هو بوتين ينسحب حسب هذه التسوية المقترحة من الأراضي الأوكرانية بمجرد حصوله على ضمانات تحمي الناطقين بالروسية وتعمل عمليا كمنطقة عازلة استراتيجية بين الناتو والأراضي الروسية.

بوتين

٢- يخرج هذا الحل زيلينسكي مرفوع الرأس أيضا، إذ أنه ساعتها بوسعه القول إنه لم يخسر بوصة واحدة من أراضي أوكرانيا وأنهى الاحتلال الروسي وحرر دونباس ومناطق الجنوب التي تمثل نحو ربع أراضي أوكرانيا، ويخرج معه بايدن والناتو مرفوعي الرأس أيضا لأنهم أوقفوا التمدد الروسي ومكنوا دولة حليفة محتلة من استعادة أراضيها وحققوا مبدأ من مبادئ القانون الدولي بعدم جواز احتلال أراضي الغير بالقوة. طبعا هذا المبدأ الراسخ تستثني منه إسرائيل واحتلالها للأراضي الفلسطينية والسورية بالقوة.

٣- وقف دخول أوكرانيا إلى حلف الناتو إلى أجل غير مسمى واستبدال ذلك بضمانات أمنية لكييف مع دول الناتو تحمي أمنها من أي تهديدات روسية مستقبلية مع السماح لها بعضوية منتسبة للاتحاد الأوروبي خاصة وأن النظام الأوكراني لا يستوفي المعايير الخاصة بديمقراطية النظام السياسي المطبقة في الاتحاد الأوروبي.

دبابات الجيش الروسي في أوكرانيا
دبابات الجيش الروسي في أوكرانيا

٤- بدء مفاوضات جادة بين واشنطن وموسكو حول الأمن الأوروبي وإمكانية استدعاء خبرة مجلس أوروبا وضمانات الأمن المتبادل في مؤتمرات هلسنكي وميونيخ وغيرها والتي تبلورت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي والتي تنكر الغرب لها فكانت مصدرا من مصادر التوتر الراهن.

في النهاية لا يمكن استبعاد أن تنفتح مغارة “علي بابا” في الجحيم النووي إذا نطق أحدهما بكلمة “افتح يا سمسم” أي إذا أخطأ أو تعمد بوتين أو بايدن أيهما أو كلاهما الضغط على الزر النووي الذي لا يفارق الحقيبة الرئاسية لكل منهما.

ولكن الخبرة التاريخية للنزاعات المماثلة واستراتيجيات التصعيد المحسوب لما قبل الجلوس على مائدة المفاوضات والحد الأدنى من الرشادة السياسية تجعلنا نميل إلى ترجيح تسوية بعيدة ولكن آتية في نهاية المطاف وتحتوي على تنازلات متبادلة مؤلمة من جميع الأطراف.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock