ثقافة

إنصاف المرأة.. بين أفلاطون وابن رشد والجابري

يشير الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه “المثقفون في الحضارة العربية” إلى أن أبي الوليد ابن رشد؛ لم يكن سوى ناقل لفكرة أفلاطون فيما يتعلق بالمساواة بين الرجل والمرأة.. لكن ابن رشد لم يكتف بعرض الفكرة؛ بل علق عليها تعليقا وافيا متضمنا بيان موقف الشريعة مما ذهب إليه أفلاطون.. في هذه التعليقات وكما في شروحه لأرسطو يرتقي ابن رشد درجات سلم الإبداع الفلسفي لنجد -في النهاية- بين أيدينا نصا موازيا؛ ربما فاق النص الأصلي وبزّه في غير  موضع.

لم يكن ذلك اكتشافا من قِبل الجابري، وبالتأكيد أنه لم يرد الانتقاص من قدر ابن رشد، أو اتهامه بانتحال راي أفلاطون.. أراد الجابري عرض الرؤية الرشدية المنبثقة من الأصل الافلاطوني عرضا وافيا؛ ليبدي عليها عددا من الملاحظات الجديرة بالبحث؛ والتي تصلح للبناء عليها كأساس لرؤية فلسفية أعمق وأشمل بشأن قضية المرأة.. وهو ما أشار إليه في مقدمة كتاب “الضروري في السياسة.. مختصر كتاب السياسة لأفلاطون” الذي كتبه ابن رشد في أواخر سني عُمره؛ فيقول: “على أن ابن رشد لا يقف من هذا الكتاب عند حدود استخلاص “الأقاويل العلمية الضرورية” في محاورة أفلاطون، بل أضاف إليه ما أطّر به تلك الأقاويل من أمور نظرية ومنهجية، وما انفصل به عن أقلاطون وعوّضه بآراء وتحليلات تخص التجربة الحضارية العربية بصورة عامة والواقع الأندلسي في عصره بصفة خاصة، فجاء ما يقرب من ثلث الكتاب بقلمه ومن وضعه. وهكذا جاء الكتاب “يشبه المختصر من جهة حذف التطويل، والمخترع من جهة التتميم والتكميل”، حسب عبارة ابن رشد نفسه في وصف كتابه “الضروري في أصول الفقه: مختصر كتاب المستصفى”.

الضروري في السياسة.. مختصر كتاب السياسة لأفلاطون

والحق أن “اختصار ابن رشد لكتاب أفلاطون ليس سوى تعويض للخصوصية اليونانية فيه بالخصوصية العربية، وأيضا الانفصال عن تشاؤم صاحب “الجمهورية” من إمكانية قيام مدينة فاضلة على هذه الأرض، والنظر إلى المسألة من منظور يرى في الشئون الإنسانية شئونا تتعلق بالإرادة، لا ظواهر خاضعة للحتمية الطبيعية. إن ابن رشد ينفصل، بل يقطع مع يأس أفلاطون، ليقرر أن المدينة ممكنة على هذه الأرض وعلى وجوه أخرى، وأن الطريقة التي اقترحها أفلاطون ليست الطريقة الوحيدة الممكنة”.

ويشير الجابري لتدخل ابن رشد بالرأي في المسألة التي طرحها أفلاطون، وهي هل يوجب مبدأ المشاركة بين الرجل والمرأة قيامها بأعباء إضافية كالدفاع والحراسة والرئاسة، أم من الممكن أن تكتفي بوظيفة الإنجاب وتدبير أمور البيت؟

ويرى الجابري أن ابن رشد في معرض تدخله قد كوّن رؤية مستقلة تماما عن أفلاطون بشأن المرأة، وتتلخص تلك الرؤية في الإقرار بوحدة الطبيعة بين النساء والرجال، كذلك في تساوي كلاهما في القدرة على ممارسة التفلسف والولاية وخوض المعارك! مع الإشارة إلى وجود اختلاف في أدائهما لبعض الأنشطة، ثم يأتي ابن رشد على ذكر بعض الشرائع التي تستبعد المرأة من تولي شئون الحكم، ثم تُختتم الرؤية بالحديث عن وضعية النساء في المجتمع العربي وفي الأندلس بشكل خاص.. ومن خلال تلك الرؤية يعرج ابن رشد على بعض مشكلات مجتمعه كمشكلة الفقر، فيذكر في استعراضه للأسباب المؤدية إليه؛ منع المرأة من العمل، بما يعد خصما من قوة العمل وإضافة إلى حجم الكتلة المعيلة في المجتمع؛ ما يكون من شأنه مفاقمة مشكلة الفقر.

الضروري في أصول الفقه: مختصر كتاب المستصفى

لا يلتفت ابن رشد كثيرا -على خلاف ما ذكر الجابري- إلى تبيان موقف الشريعة من بعض ما ذهب إليه أفلاطون في الجمهورية، خاصة فيما يتعلق بولاية المرأة، وإن كان قد ألمح إلى أن الإسلام قد استثنى النساء من الإمامة الكبرى، وهو في ذلك يفضل أن يكون طرحه متماسا في المقام الأول مع مشكلات مجتمعه، وما يعيشه الناس من تأزمات؛ فيعمد إلى القول الفلسفي الذي يمكنه من نقد الواقع، وكشف تناقضاته.. وهو في أحيان كثيرة لا يرى ضرورة استدعاء النصوص الدينية حيث أن إقحامها لا يتجاوز حدود التكلف؛ لكنه يعود فيرى ضرورة اللجوء إلى النص مع القدرة على تأويله في مواجهة من يشهرون سيف التفسير الأوحد في وجهه، وقد كان ابن رشد متمكنا من التوفيق بين الحكمة والشريعة، مؤكدا على أن أي تعارض بينهما هو محض توهم، ومن قبيل العجز عن التأويل.

وربما كان بعض ما تقدم هو ما أسس الجابري عليه رؤيته في قضية المرأة التي رأى أن الفقه الإسلامي يتسع لاحتوائها، وتقديم الحلول لأعقد مشكلاتها.. حتى أنه تهكم على القانون الذي أصدرته المغرب، وعرف بمدونة الأسرة قائلا: إن أي فقيه يعرف الفقه كان يمكن له بمفرده ومعه كتبه، وبمعزل عن أي صراع أو خلفيات أن يأتي بتلك النتائج دون أن تخرج عن المجال الديني ولا عن كلام الفقهاء. فالمشكل -كما يقول الجابري- لم يكن مشكلا اجتهاديا فقهيا؛ بل هو تسييس المشكل!

وتعليقا على مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة الذي أقره أفلاطون، وعلّق عليه ابن رشد تعليقا وافيا.. رأى الجابري أن الإسلام قد أقر مبدأ المساوة بين الرجل والمرأة في الحقوق العامة والخاصة، كما أن أحكامه قد تناسبت وحال المجتمعات العربية زمن نزول القرآن الكريم، حيث كان النظام القبلي متحكما في كل شيء، فلم تكن علاقة الزواج ينظر إليها كارتباط بين رجل وامرأة بل مصاهرة بين قبيلتين تسعى كل منها للمحافظة على ثروتها بعدم توفر أسباب انتقالها للقبيلة الأخرى، لذلك كان العرب لا يورثون النساء والضعفاء في المطلق، وكان مبدأهم أن الميراث لمن حمل السيف، ونكأ الأعداء، واعتلى صهوات الخيل.. وعندما أقر الإسلام مبدأ توريث المرأة جعلها مفضلة على الرجل في ست حالات، بينما يَفْضُلُها الرجل في أربع حالات فقط، ويتساوى كلاهما في سبع حلالات. وقد كانت قضية الميراث في المجتمع العربي من أكثر القضايا حساسية لما كان يسود المجتمع من أعرافٍ تورّث الغرباء في بعض الأحيان ، وتمنع ذوي الأرحام.. كما رأى الجابري أن الإسلام قد تعامل مع الطلاق وتعدد الزوجات، بما يشبه إقرار الواقع مع العمل على ترشيده، وضبطه وفق شروط تقترب من المنع أكثر من الإطلاق، لذا فقد اشترط في تعدد الزوجات العدل: “… فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً” وفي آية أخرى: “وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ…”.. كما حرص على يكون الطلاق في حالات محددة تستحيل فيها الحياة بين الأزواج، مع حفظ الحقوق المادية والمعنوية للمرأة والأبناء.

جمهورية أفلاطون

لقد انطلق الدكتور الجابري في رؤيته لقضايا المرأة من أرضية عربية إسلامية؛ مؤكدا على احترام تعاليم الدين الحنيف للمرأة، مع الوضع في الاعتبار أن النظرة المتدنية للمرأة التي سادت في كثير من المجتمعات الإسلامية لفترات طويلة إنما هي نتاج لتأثير الثقافات المحلية التي تسيطر عليها فكرة التفوق الذكوري، كما رأى أن النظر المُمَحص للتراث كفيل بكشف فعل الأهواء في كثير من مشكلاتنا الراهنة، لافتا إلى أن طريقة تعاطينا مع التراث قد حوّلنا إلى كائنات تراثية، والأصل أننا كائنات لها تراث تتفاعل معه؛ بما يتيح لها انتاج رؤى ناجعة لمشكلاتها المعاصرة، لأن الحداثة العربية يجب أن تنبع من التراث لا من الحداثة الغربية وفق شروط المواءمة المنهجية بعيدا عن التلفيق.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock