رؤى

“خطوة مقابل خطوة” مبادرة أردنية.. لإرساء الأمن في الجنوب السوري

بالتزامن مع الحديث عن توجه عربي لإعادة سوريا إلى محيطها العربي والإقليمي، بعد اثني عشر عامًا من العزلة، أعاد الأردن طرح مبادرته للحل السياسي في سوريا، والتي يُطلق عليها مبادرة “خطوة مقابل خطوة”؛ مدفوعًا بالمتغيرات الإقليمية والدولية، سواء من جهة إعادة روسيا ترتيب أولوياتها باتجاه أوكرانيا، ومصالحها في تهدئة الجبهات الأخرى المنخرطة فيها، أو من جهة الانفتاح العربي والتركي على دمشق، وتحديدًا في إطار الاستجابة الإنسانية لكارثة الزلزال المدمر، الذي ضرب سوريا وتركيا، في فبراير الماضي، أو من جهة إمكانية تقديم إيران لتنازلات، بعد الإعلان عن استئنافها العلاقات مع السعودية، ونتيجة للضغوط المحلية والخارجية المفروضة عليها.

اللافت، أن وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، كان قد أجرى مباحثات حول المبادرة الأردنية لتسوية الأزمة السورية، مع نظيره البريطاني جيمس كليفيرلي في 25 فبراير الماضي؛ وأن هذه المباحثات كانت قد جاءت بعد أحد عشر يومًا فقط من زيارة أجراها الصفدي إلى سوريا، والتي كانت الزيارة الأولى للوزير الأردني إلى دمشق منذ بداية الأزمة، وأعلن حينها عقب لقائه بالرئيس السوري بشار الأسد، أن “الزيارة محطة للتوصل إلى حل للأزمة السورية”.

وكما يبدو، من الإصرار الأردني على طرح المبادرة، وإعادة طرحها من جديد، أن عددًا من الأهداف يستند إليها في طرح المبادرة.. أهمها ما يلي:

من جهة، يبدو التأكيد على مكانة الأردن كلاعب إقليمي في المنطقة؛ فوزير الخارجية الأردني، كان قد كشف عن مبادرة عربية بقيادة أردنية لحل الأزمة السورية، وذلك في لقاء صحافي أجراه مع صحيفة “ناشيونال” البريطانية، في 28 سبتمبر 2022، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في الدورة 77؛ مؤكدًا أن بلاده تحشد لدعم دولي وإقليمي لعملية سياسية لإنهاء الأزمة المستمرة منذ أحد عشر عامًا في سوريا، وموضحًا أنه تم التوافق عليها بشكل مبدئي لاسيما مع السعودية، إلى جانب مصر والكويت والبحرين، وفرنسا على الصعيد الدولي.

وكما يبدو من حديث الصفدي، فإن الأردن يحاول التأكيد على مكانته كـ”لاعب إقليمي” في المنطقة، عبر انخراط عمان بجهد كبير لطرح المبادرة بجدية لدى المجتمع الدولي، وذلك عبر قراءة فاحصة للموقفين الأمريكي والروسي، بخصوص الأزمة ومحاولة الأردن المساهمة سياسيًا لحلها.

فمن جانب، وبسبب انشغالها بالحرب في أوكرانيا، وتركيزها الاستراتيجي على التواجد في المحيط الهادئ لمواجهة التوسع الصيني المتنامي، فقد فوضت الولايات المتحدة الأمريكية دول الشرق الأوسط بتقديم الحلول والتسويات للأزمات والصراعات الإقليمية، وهي السياسة التي أطلقت عليها “فورين بوليسي” تعبير “الاستقرار المفوض”؛ ومنه يمكن فهم طبيعة الموقف الأمريكي المُتفهم لمختلف التحركات الأردنية على المستوى الإقليمي. ومن جانب آخر، تُدرك روسيا ما يمتلكه الأردن في حسابات العلاقات الدولية، من قدرة واضحة، مقارنة مع دول أخرى، على طرح مبادرة وحشد الدعم اللازم لها من القوى الإقليمية بحيث تصب في صالحها؛ لذلك، تُعير موسكو اهتماما كبيرًا للمبادرة الأردنية.

من جهة ثانية، التأثير السلبي للجماعات المسلحة على الأردن؛ إذ بعد عام 2015، عندما دخلت موسكو على خط الأزمة السورية، فقد أصبح جنوب سوريا موضع بحث وتفاهمات على الطاولة الإقليمية والدولية، نظرًا لحساسيته من الناحية الجيوسياسية والأمنية، لكل من الأردن وإسرائيل، ولما له من تأثيرات على أمن الدول في الإقليم، فضلًا عن مصالح الولايات المتحدة.

ونظرًا لأهمية الجنوب السوري بالنسبة إلى الأردن، فقد سعت عمان للانطلاق من اتفاق “خفض التصعيد”، منذ عام 2017، وتحويله لاتفاق يحمي أمن الأردن ومصالحه على الحدود مع سوريا. إلا أنه، رغم التفاهمات بين الأطراف الإقليمية والدولية، بشأن إبعاد الجماعات المسلحة المدعومة من إيران عن الحدود الأردنية، والإسرائيلية، فقد تعاظم نفوذ إيران في الجنوب السوري، بعد أن تواجد الحرس الثوري الإيراني والجماعات المسلحة المدعومة منه، مثل حزب الله وغيره؛ بما يعنيه من تأثير سلبي على الأردن، من خلال نشاط جماعات تهريب المخدرات، وانتشار السلاح على الحدود الأردنية السورية.

ومن ثم، فقد توصلت عمان إلى نقطتين أساسيتين، هما: عدم قدرة النظام السوري على إيقاف عمليات التهريب نهائيًا؛ إضافة إلى المخاوف من حصول جماعات داخل الأردن على كميات كبيرة من السلاح، عبر استغلال سهولة الحدود مع سوريا.

من جهة ثالثة، تأسيس عمق استراتيجي عربي في جنوب سوريا؛ انطلاقًا من التهديد، الذي يتخذ أبعادًا أمنية واجتماعية تطال الأردن، إضافة إلى دول الخليج، بما تبدو معه الحاجة الأردنية المُلحة لإعادة ضبط المعادلة الأمنية في الجنوب السوري، بشكل يُرسي الأمن على جانبي الحدود، ويُبعد التهديدات المرتبطة بالوجود الإيراني هناك.

والملاحظ، أن المبادرة الأردنية توفر الفرصة لتأسيس عمق استراتيجي عربي في جنوب سوريا، عبر محاولات إبعاد الجماعات المسلحة المدعومة من إيران، من هناك؛ خاصة أن الظروف الدولية تبدو مناسبة لطرح الأردن مبادرته، إذ بينت الحرب في أوكرانيا الحاجة إلى خفض التوتر والتصعيد حول العالم؛ كما أن البيئة الإقليمية والعربية تبدو أكثر تعاطفًا مع سوريا بعد الزلزال المدمر، الذي خلف أعدادًا كبيرة من القتلى وخسائر تُقدر بالميارات؛ حيث زار دمشق وزير الخارجية الأردني، ووزير الخارجية المصري سامح شكري، ومن قبلهم وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد، فضلًا عن المحاولات الروسية في عودة العلاقات بين دمشق وأنقرة.

من جهة رابعة، الوضع الاقتصادي وتطبيع العلاقات مع سوريا؛ حيث تتزامن المبادرة مع سعي الأردن لتقديم معادلة جيواقتصادية إقليمية، قد تساهم في جذب الحكومة السورية وروسيا، عبر مشاريع اقتصادية ذات صبغة استراتيجية، في مقدمتها الاتفاق الرباعي لإعادة إحياء خط الغاز العربي، بواسطة أنابيب تنطلق من مصر، مرورًا بالأردن وسوريا، ووصولًا إلى لبنان، إلى جانب توسيع الشراكة الثلاثية بين عمان والقاهرة وبغداد، لتشمل مشاريع مشتركة مع دمشق.

من جهة أخيرة، تخفيف الضغوط الناتجة عن اللاجئين السوريين؛ إذ، إن وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، كان قد حذر، الأحد 11 سبتمبر الماضي، خلال استقباله المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي، من “التدني اللافت في الدعم الدولي للاجئين في المنطقة”؛ وكانت هذه إشارة إلى أن الأردن يستضيف نحو 650 ألف لاجئ سوري، مُسجلين لدى الأمم المتحدة، بينما تُقدر عمان عدد الذين لجأوا إلى المملكة بنحو 1.3 مليون شخص.

ومن هنا، يأتي أحد أهم الأسباب وراء طرح المبادرة الأردنية لإرساء الأمن في الجنوب السوري، عبر محاولة توفير إمكانات العودة الطوعية للاجئين السوريين على أراضيه إلى سوريا، أو إلى مناطق الجنوب السوري في الحد الأدنى؛ خاصة مع تأكيد الأردن، بأن تكلفة اللاجئين على أراضيه تتجاوز 12 مليار دولار سنويًا.

في هذا السياق، يمكن القول بأن مبادرة الأردن الجديدة لحل الأزمة السورية عمومًا، وإرساء الأمن والاستقرار في الجنوب السوري بوجه خاص، تأتي كمحاولة للحفاظ على الحضور الأردني كفاعل إقليمي، عبر إظهار القدرة على أداء دور الوسيط، بين الأطراف الإقليمية، في النزاع السوري؛ معتمدًا في ذلك، بحصول تحولات مُقبلة على صعيد الموقف الدولي من سوريا، وتشكل رغبة عربية شبه مُعلنة في جذب النظام السوري إلى الدائرة العربية، وإبعاده عن المجال الإيراني.

وكما يبدو، تتميز المبادرة الأردنية عن سواها من المقترحات الخاصة بحل الأزمة السورية، بوجود برنامج شبه تفصيلي لتطبيق خطواتها على أساس “الخطوة خطوة”، واعتماد بنودها على القرارات الدولية، 2254 و2642، بما يمنحها مرونة أكبر في التطبيق، وقدرة على تجاوز التعقيدات التي حالت دون تحقيق تقدم في الحل.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock