عندما انتهيت من قراءة هذه الرواية الرائعة، وجدت نفسي أكتب في الصفحة الأخيرة منها تلك الكلمات بالعامية المصرية: “إيه العظمة دي؟ وإيه الجمال ده؟”
هل فعلا تستحق تلك الرواية هذا الوصف، أم كنت مُبالغا في وصفي لها؟
الحقيقة هي تستحق ذلك الوصف بل أكثر، فقد جاءت عَلى تلك الوقائع التاريخية التي تجري أحداثها في السنوات العشرين الأخيرة من القرن التاسع عشر، وتحديدا تلك السنوات التي صاحبت وأعقبت الثورة العرابية، والتي اندلعت في خريف عام ١٨٨١، وانكسارها في نفس الفصل الخريفي من العام التالي، واستمرار تداعياتها، بالنسبة لبطل هذا العمل، الضابط المصري “محمود عبد الظاهر” حتى مشارف القرن العشرين، حيث توقفت أحداث تلك الرواية. غير أن ذلك العمل الابداعي الفريد، والذي اعتبره ذروة أعمال هذا الكاتب الكبير، لا يقف عند السرد الرائع واللغة البسيطة الشفافة والآسرة، بل هو يُناقش العلاقة بين ثقافات الشرق والغرب، والصدام الحضاري بينهما، صدام لا يقف عند ذلك الصراع الدموي بين سلطة المُحتل البريطاني وبين مصر وشعبها، بل ذلك الصدام الثقافي والحضاري والمعرفي بين عالمين مُتناقضين ومُختلفين أشد الاختلاف.
فقد نجح “بهاء طاهر” أن يُجسد هذا الصراع بتكنيك فني وأدبي عالٍ، مِمَّا مكّنهُ من امتلاك زمام الرواية من بدايتها حتى نهايتها، فلم نلحظ تفاوتا في مستوى اللغة بين فصل وآخر، ولا ضياع الفكرة المحورية التي تمثل العمود الفقري والمحوري للأحداث، ولا غياب الوقائع الحياتية لأبطالها مع السياق العام الذي يُشكّل تاريخ الوطن في تلك الحُقبة المُظلمة، فالهم الوطني حاضر، والنقد الذاتي لمعسكر الثورة، والإدانة الحاسمة لمن خانوها تبدو واضحة جلية، دون صياغة مُباشرة تُفسد الطابع الإبداعي لتلك الرواية الفاتنة.
ولكي يُجسد “بهاء طاهر” تلك الأبعاد في هذا العمل الجميل فقد عمد إلى تكنيك جديد يقوم عَلى طريقة تكاملية -إذا جاز التعبير- في السرد القصصي، فقد توزعت فصول الرواية إلى ثمانٍية عشر فصلا، موزعة عَلى أبطال الرواية وهم الضابط المصري “الصاغ محمود عبد الظاهر” وهو يشغل ثمانية فصول، وزوجته الإيرلندية “كاثرين” سبعة فصول، والشيخ “يحيي” يشغل الفصل الخامس، أما غريمه الشيخ “صابر” فيأتي في الفصل الثاني عشر، ويُخصص المؤلف الفصل الثالث عشر لأبطاله “محمود وكاثرين والشيخ يحيي” ثم يُفرد الفصل الثامن بأكمله وعلى نحو عشرين صفحة؛ لذلك البطل الحاضر الغائب لهذا العمل “الإسكندر الأكبر” تلك الشخصية التاريخية والأسطورية والتي يُشَكل حضورها والصراع حولها جوهر تلك الرواية ومحتواها الفلسفي والثقافي والتاريخي!
ولكن هناك ثلاث شخصيات يُمثلن روح العمل، بمعناه الإنساني والوجداني، أولهم “فيونا” الإيرلندية، شقيقة “كاثرين” زوجة الضابط “محمود عبد الظاهر” والتي تُجسد برؤيتها ونقائها روحا ملائكية نادرة بين بني البشر. ثم “مليكة” تلك الفتاة الفاتنة الجمال ابنة الواحة، التي ظُلمت وقُهرت في حياتها وفي موتها، والثالثة “نعمة” الجارية السمراء التي عشقها “محمود” في سنوات شبابه، وظل جمالها الأخاذ يلازمه حتى بعد زواجه من “كاثرين” فقد اختفت في ظروف غامضة ومُفاجئة، ما زاد ولعه بها، بل وعذابه لغيابها.
ثلاثتهم نساء، وهُنّ يمثلن قيم النقاء والبراءة والطُهر، وبسبب ذلك، كان مصيرهن خيبة الأمل والضياع، فقد تعرضن ثلاثتهن للظلم والقهر والمرض، رغم أنهن يمثلن الروح النقية الغائبة عن الصراع والمُترفعة عن الأطماع والغايات!
بيد أن تلك الأحداث الجٍسام توزعت بين ثلاث أماكن رئيسية، وهي القاهرة حيث وُلد الضابط “محمود” وعاش سنوات شبابه، بكل مجونها ولهوها، وفي ظلال قصر أبيه التاجر الثري.
ثم الإسكندرية خلال سنوات الثورة العُرابية ووقائع مذبحتها الدامية في الحادي عشر من يوليو ١٨٨٢، والتي حصدت مدافع القوات البريطانية الغازية عشرات الألاف من أرواح مواطنيها، وتحولت عروس البحر الأبيض الى أنقاض!
وتبقى “واحة سيوه” بكل جمالها وسحرها وغموضها، هي المكان الثالث، الذي يجري على أرضها ذلك الصراع بين الشرق والغرب، بمعناه الثقافي بين “محمود” و”كاثرين” وهم داخل وتحت سقف البيت الواحد، وبين أبناء وسكّان الواحة، حيث تتصارع الانتماءات العرقية والصراعات القبلية، وبين مفاهيم ظالمة ومُتخلفة ونزعات شاردة للتقدم والانعتاق من إسار القهر والظلم والجهل.
إنها حقا “واحة الغروب” التي تقع جغرافيا في غرب مصر، غير أنها وفي تلك الفترة من حياة مصر، كانت تمثل بأهلها، تلك القيم الموروثة من الزمن السحيق، وما كان عَلى أهلها أن ينفضوا عن كاهلهم تلك الأغلال التي قهرت عقولهم، قبل أن تسحق أجسادهم في أطماع وصراعات لا معنى لها ولا طائل منها.
مأساة أهلها والذين يدفعون الضرائب السنوية المُجحفة والظالمة لحكومة بلادهم، أنهم لا يدركون أن تلك السلطة القاهرة لهم -في القاهرة- هي بالفعل مقهورة من سلطات الاحتلال، فما تأخذه تلك الحكومة منهم، قهرا وظلما باليمين، يُسلم للسادة المُحتلين باليسار!
واحة مقهورة.. في وطن مقهور.