“مرآة الضمير الحديث” أو “نفوس للبيع” هو عنوان أحد كتب الدكتور طه حسين الذي يحوي رسائل ومقالات مقتضبة عما يحتاجه الضمير الإنساني في هذا العصر وكل عصر. وهو عبارة عن مجموعة من الرسائل المنسوبة إلى الجاحظ [159-255هـ/775-868م] أشهر أدباء العصر العباسي وصاحب كتاب البيان والتبيين؛ ولكن الدكتور طه حسين لا يوافق على ذلك الرأي إذ يرى أن تلك الرسائل محمولة عليه لأن تكلف التقليد فيها ظاهر.
وبغض النظر عن كون كاتب هذه الرسائل الإنسانية هو الجاحظ أو غيره من كُتّاب القرن الثالث والرابع الهجريين؛ فإن الدكتور طه حسين قد ضمنها في كتابه لما تعكسه من حال النفس البشرية وما تتطلبه؛ كي تظل حية، ثم أضاف إليها مقالات أخرى تعبر عن وجهة نظره، ومنها على سبيل المثال ما يحتاجه الشباب من أجل أن ينهضوا بأوطانهم. ومن الجدير بالذكر أن بعض تلك الرسائل والمقالات قد قام الدكتور طه حسين بنشرها في مجلة الهلال عامي 1947م و1948م قبل أن يصدر ذلك الكتاب.
ومن بين مقالات كتاب “نفوس للبيع” مقال يحمل عنوان “الحرية أولًا” شبَّه فيه الدكتور طه حسين نفوس شباب مصر بالعفريت المحبوس في قمقم، والذي تخبرنا عنه قصص ألف ليلة وليلة أنه قد أُلقيّ في أعماق البحار، وأنه يحتاج إلى صياد كي يخرجه من ذلك القمقم ويرد إليه حريته فلا يحول بينه وبين الهواء والنور والجمال حائل. وذلك يعني أن ما نرجوه من ذوق فني رفيع من الممكن أن ينمو في نفوس الشباب بصورة تلقائية فتتمكن من أن تبدع كل ما هو ممتع وجميل إذا استطاعوا هم أولًا أن يتأملوا كل ما يحيط بهم من جمال أو قبح بمنتهى الحرية. وإلى أن يوجد ذلك الصياد الذي سيحرِّر تلك الأنفس السجينة ويخرج العفريت من قمقمه فلن يتوقف الحديث عن الرغبة في تنشئة الذوق الفني الرفيع في نفوس الشباب، وما أكثر مثل ذلك الحديث الذي لا ينتج عنه أي تغيير!
ويبدو أن الدكتور طه حسين كان ينتقد الإكثار من الحديث عن تنشئة الذوق الفني الرفيع في نفوس الشباب دون اتخاذ أية خطوة عملية من أجل التحرر الفعلي لنفوس لن تبدع قبل أن تتحرَّر. فمع الحرية ستكون التنشئة مثمرة، أما بدونها فسيظل هناك حديث عن الجمال دون تلمسه أو إدراكه. وبدون تلك التنشئة لن يحب الشباب الجمال أو يتذوقوه، ومن ثم لن يبدعوا ما هو جميل أو يبتكروه، ولن يضيفوا فنًّا حديثًا إلى الموروث القديم يشاركون به في العالم الذي يتوق إلى تقديم كل ما هو جديد خاصة إذا كان يثري الروح ولا يفسد كل طيب فيها وفي الحياة.
وبدون التحرر الذي سيؤهل بدوره إلى التنشئة على تذوق الجمال فلن يستقبل الشباب الحياة برغبة فيها وحب لها وإيمان بما يمكن أن تمنحه لهم من ثراء روحي وعقلي، وآنذاك لن يكتفوا بظاهر ما تقدمه لهم من كل ما يشبع غرائزهم وشهواتهم فيقضون حاجاتهم الدنيوية والدونية ويحققون مآربهم القريبة والعاجلة؛ بل سيتجاوزون ذلك إلى كل ما هو أرفع شأنًا وأرقى غاية، والذي معه سيجدون معنى جديدًا ومختلفًا للمتعة التي ترتاح إليها النفس فؤادًا وروحًا وليس جسدًا وبدنًا فلا تشقى أو تحزن، خاصة بعدما ارتقت ولم تعد تنجذب لكل ما يتدنَّى بها.
وآنذاك سيرتقي الإنسان بمآربه ويسمو بغاياته فلن يكون طموحه أرضيًّا بحتًا بعدما أدرك زوال كل ما هو أرضي، وبالتالي لن يحب ما كان في الماضي يحبه أشد الحب ويتعلق به أشد التعلق لأنه أدرك أنه من الأولى به أن يحب كل ما هو عظيم القيمة ويتعلق بما فيه النفع له دون أن يُلحِق به الأذى؛ ومن ثم عليه أن يزهد في متاع الدنيا الزائل وأن يسمو فوق كل مادياتها الفانية، فالأهم من كل شيء مادي تتعلق به نفسه هو أن يعرف تلك النفس وأن يُقدِّر قيمة وجودها؛ كي يتيسر له إدراك قيمة الحياة وما يجب أن يكون عليه دوره فيها.
وإذا كان الحديث عن منح الحرية للشباب يسيرًا وسهلًا؛ فإن تحقيقه حسب رأي الدكتور طه حسين –هو للأسف– أمر عسير؛ خاصة في ظل الالتزام بقيود التقاليد والعادات الموروثة التي يفرضها المجتمع والأسر والبيئة المحيطة، وفي ظل الخضوع للتسلط السياسي الذي يفرض القوانين التي تقيد الحريات ولا تسمح بحرية الرأي. فكيف يمكن إعداد نفوس الشباب الذين سيحملون شعلة النهضة في بلادهم لتذوق الجمال، ومن ثم لإبداع كل ما هو جميل، وهم ما زالوا لا يفكرون أو يحيون كما يريدون؟!
إن الإبداع الإنساني لا يمكن أن يظهر في الوجود دون حرية، فمتى توفرت الحرية يحصل الإنسان على استقلاليته؛ فيقبل ويرفض ما يختاره هو، وليس ما يتم فرضه عليه، وهذا ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات الأرضية. فعندما يتحرر المرء من تسخير غيره له سيربح إنسانيته التي عليه أن يرتقي بها وهي تلك الإنسانية المكرَّمة والمفضلة على كثير من المخلوقات.
ويضيف الدكتور طه حسين أنه بالرغم من أن الإبداع ليس مُيسَّرًا لكل الناس، فليسوا جميعًا قادرين عليه ومؤهلين له، إلَّا أن ذلك ليس مُبرِّرًا كي نمنع عنهم حقهم في التحرر أولًا ثم إتاحة أسباب وفرص التذوق والتفوق والابتكار لهم، وبدون ذلك لن يكون هناك أي تقدم حقيقي ملموس أو نهضة تدوم ويُكتَب لها الاستمرارية والبقاء.
ولأنه ليس هناك ما هو أجلُّ وأشرف من أن تبني وتنشئ أنفسًا وعقولًا –مثلما يقول أمير الشعراء “أحمد شوقي” [1868-1932] فإن تحرير الأنفس لن يتيسر قبل أن يتم تخليص الشباب أولًا من الجوع والبؤس والفقر المدقع الذي يدفع بهم إلى العوز الناتج عن الحرمان من أساسيات العيش الكريم والذي يتحقق معه الأمن والأمان الحقيقيان، ثم تخليصهم ثانيًا من الجهل والأمية وتوفير سبل التثقيف والتوعية والتعليم الجيد لهم. آنذاك فقط ستتاح لهم الفرصة لاستقبال الحياة وتبين ما بها من جمال أو قبح بكل حرية، ولن يكون علينا بعد ذلك سوى أن ننتظر منهم نتيجة ما استقبلوه بأنفسهم وكيف سيعبرون عنه بحرية. فإذا أردنا شبابًا عاملًا ومبدعًا ومتذوقًا للفن والجمال علينا أولًا أن نمنحهم فرصة العيش الكريم الذي يشعرون معه بالعدالة الاجتماعية، وأن نفتح لهم أبواب الحرية الواعية التي بإمكانها أن تقي كل ناضج رشيد من التعصب والتطرف وأن تحميه من الشذوذ والانفلات.
وإذا كان الدكتور طه حسين قد حرَّر نفسه من ظلمة فقدان البصر ومن ظلمات الجهل والتخلف فانفتح على العالم خارج قريته وخارج الأزهر بل وخارج مصر، ومن ثم استطاع بعد كفاح مرير أن يحقق ما لم يكن أحد يتوقعه له، فإنه أيضًا كان يحُلم لوطنه، ويرجو لأبناء وطنه بصفة خاصة، أن يتمكنوا من تحرير أنفسهم مثله؛ لذلك كان حريصًا على أن يقدم لهم تلك الروشتة الموجزة والبليغة التي عرضناها، وغيرها من الأفكار القيمة حول مستقبل التعليم والثقافة في مصر.
ولكن الكثيرين من أبناء وطنه ما زالوا إلى الآن يمضون أعمارهم في انتظار الصياد الذي سيُخرج كل سجين من محبسه، بينما قليلون فقط هم من سيحررون أنفسهم بأنفسهم مثلما فعل من قبل معلمهم ومرشدهم الدكتور طه حسين. وهذا هو ما يجعلنا نرى بين حينٍ وآخر بعض النماذج الناجحة والمبدعة بصورة فردية مثل عميد الأدب العربي، ولكننا لم نشهد بعد طفرة تنموية ونهضة حقيقية على مستوى الشعب والأمة.
إن سر تميز الدكتور طه حسين هو أنه بالرغم من فقدانه لبصره استطاع أن يستجمع كل قواه كي لا يفقد بصيرته، فأخرج نفسه من عتمة كل ظلام فُرِض عليه رغمًا عنه وذلك عن طريق تمسكه بشعلة العلم الذي أنار له عالمه بعدما كان من الممكن أن يظل عالَمًا ضيقًا ومحبِطًا، فإذا بذلك العالَم يتسع مع الوقت ليصبح عالَمًا رحبًا تمتلئ فيه حياته بنور الفكر الحر.
فلماذا لم ينتظر طه حسين مصباح علاء الدين السحري؛ كي يعيد إليه بصره، أو كي يلقنه العلم وهو نائم على سريره؟ ولماذا قرر أن يصنع نبوغه الأدبي بمجهوده الشخصي، وأن يرتقي بنفسه وعقله عن طريق كفاحه ودأبه في تحصيل العلم؛ فاستطاع بذلك أن يكون هو المخلِّص لنفسه من كل ألم أصابه أو إحباط كان من الممكن أن يقضي على طموحه؟ ولماذا كانت مهمته بعد كل ذلك الكفاح هي مساعدة غيره للتخلص من براثن الفقر وأنياب الجهل، فلم يدخر وسعًا في المطالبة بتعليم أبناء مصر التعليم الجيد الذي من حقهم أن يتعلموه؟!
إن رحلة حياة عميد الأدب العربي الذي لم يعوقه فقدانه لبصره من الحصول على درجة الدكتوراه الواحدة تلو الأخرى؛ هي التي جعلت منه أحد النماذج الأكثر إلهامًا على المستوى العربي والعالمي، وذلك لأنه استنار بنور العلم، كما لم يبخل بإضاءة شعلة التنوير لغيره من طلاب العلم، فاتخذ الكثيرون من سيرته مثلًا لعدم فقدان الأمل والقدرة على تحقيق الأهداف مهما كانت الصعاب.
وفي مقابل هؤلاء من القادرين على المقاومة والمبادرين بتحدي الصعاب لم يزل هناك كثيرون غيرهم يعيشون تحت وطأة الجهل والأمية ولا يكترثون بقيمة نضال الدكتور طه حسين على مدار مشوار حياته من أجل تحصيل العلم والانطلاق في رحاب الفكر الحر الذي مكنه من الإبداع الأدبي؛ بل إنهم ينتظرون معجزة تخلصهم من مشاكل حياتهم وهم محلك سر دون بذل أي مجهود.