ثقافة

الجابري حين وضع العقل العربي في قفص الاتهام!

يرى د. الجابري أن أزمة العقل العربي تتمثل في إلغاء الزمان والتطور؛ بقصر النظر إلى الحاضر والمستقبل على الرؤية الماضوية – ما كان من آثاره أن صار خارج التاريخ؛ يعاني من ركودٍ كُلي لا قدرة لديه على استشراف آت أو استكناه مدلول يخرجه من ثباته العميق إلى فضاء الأفكار الرحب.. وهناك خطوتان هامتان لا يمكن غض الطرف عنهما في مشروع الجابري الفكري، وهما كتاباه “نحن والتراث”1980، و”الخطاب العربي المعاصر” 1982، والمُؤَلف الثاني يعتبر المدخل لمُؤَلَّفَه “نقد العقل العربي” الذي أوضح فيه أن آفة هذا العقل تكمن في إسباغ القداسة والتنزيه على أحداث الماضي وشخوصه؛ لتكون قراءة التراث بعين سلفية ترى الماضي مصدر إلهامها الوحيد في محاولاتها البائسة في البحث عن حلول لمشكلات آنية تعصف بمجتمعاتنا العربية، وأخرى مستقبلية تكاد تدهمنا بتسارع وتيرة وقوعها وتحققها.

يتهم الجابري العقل العربي بأنه الفاعل الرئيس في كل ما حاق بنا من خيبات، وما صرنا إليه من تدهور.. ويرصد في هذا الإطار أن أصابع الاتهام طاشت يمينا ويسارا؛ تعيّن مكامن الداء، وأسبابه دون النظر إلى العقل العربي بوصفه القوة الفاعلة والمَلَكَة أو الاداة التي يرى بها الإنسان العربي واقعه ويتفاعل معه، ويقرأ ويفكر ويحلم من خلاله؛ فبدأ الجابري بتشريح هذا العقل بداية من مرحلة التكوين مرورا ببنية هذا العقل وخصائصه، وصولا إلى العقل السياسي وانتهاء بالعقل الأخلاقي، ولا شك أن الجابري بهذا الإسهام قد سبق غيره، إذ بلور رؤية معمقة ذات أسس منهجية عن العقل العربي، نعتقد جازمين أنها الأولي في ميدانها دون سوابق تذكر.

نقد العقل العربي

إن المتأمل لسيرة المفكر الكبير؛ سيرى أنه يصلح -هو شخصيا- نموذجا تفسيريا لما طرح من رؤى وما تبنى من نظريات.. فإلى جانب الجهد البحثي الكبير الذي بذله الجابري؛ كانت له تجربة ثرية في الحياة الحزبية في بلاده؛ رافضا ذلك الزعم القائل بأن الانحيازات الأيدلوجية للسياسي، ربما تبتعد به عن الحَيْدَة العلمية الواجبة للباحث والمفكر، فلقد رأى الرجل أن التلازم بين المثقف العضوي صاحب الأطروحة الفكرية والسياسي – أمر ضروري بشرط أن يظل المثقف دائما فوق السياسي، موجها له بينما يجب على السياسي أن يبني مواقفه وفق ما وصل إليه المثقف من رؤى شاملة ونظريات، وربما لم يكن الأمر في الواقع مطابقا لهذا النحو الذي بيّنه، إلا أن الرجل حاول قدر ما يستطيع تقديم هذا النموذج بحسب ما سمحت به ظروف العمل السياسي في بلاده، مستفيدا بشكل أو آخر من مناخ يتيح حرية البحث العلمي والاجتهاد الفكري، دون ملاحقات تذكر؛ ونشير هنا إلا أن الجابري لم يسلم من دعاوى التكفير خاصة بعد إصداره كتابه “مدخل إلى القرآن الكريم” ثم كتابه “فهم القرآن الحكيم: التفسير الواضح حسب ترتيب النـزول” وبالرغم من أن الجابري لم يأت فيهما بجديد من عنده، إذ جمع فيهما عديدا من المصادر المعتمدة، إلا أنه هُوجم بشدة من قبل المتشددين على اختلاف وتنوع أشكالهم؛ حتى أنهم ابتهجوا أيما ابتهاج بوفاته، ونشروا الخبر عبر مواقعهم تحت عنوان:  “هلاك الضّال الجابري”!

مدخل إلى القرآن الكريم

هذه العداوة العمياء التي أضمرها التيار الظلامي للجابري وفكره، ربما تعود إلى تلك الفترة التي كتب فيها الجابري عن الدين الذي غاب عن مجتمعاتنا العربية بوصفه باعثا على الوحدة وجامعا لكلمة الأمة ومُحرّضا على إعادة صياغة الكثير مما استقر من أوضاع خاطئة؛ ليتبدى الدين – للأسف- كتجلٍ صارخ لدعاوى التمذهب والطائفية والتشرذم، ممزقا بذلك أواصر الهوية، وفق رؤى تخاصم الواقع وتتفنن في تعقيد تفاعلاته الحاضرة.. ولم يخفف من غلواء تلك العداوة للمفكر الراحل في عام 2010، ما ذهب إليه ذات يوم من أن المرجعية الإسلامية للكيانات السياسية، لا تتنافى مع المنطلقات الحداثية والتقدمية، وهذا ما أثبتت خطأه؛ الوقائع والأحداث التي عايشناها عقب اندلاع ما سمي بثورات الربيع العربي، من ممارسات بالغة الخطورة أقدمت عليها تلك الكيانات؛ مُعرّضة أمن وسلامة ومستقبل شعوب المنطقة لأكبر الأخطار بعد انحسار الخيارات، وتراجع القوى الديمقراطية أمام حالة الاستقطاب التي أحدثها الصراع غير المتكافئ مع ذلك التيار الذي لم يتورع عن اتهام منافسيه بالكفر والمروق من الدين، في ذات الوقت الذي أسبغ فيه على نفسه وقادته صفات العصمة القداسة.. ما أدى إلى صدامات متعددة أسلمت أقطار الربيع إلى شتاء طويل من القهر والخُسران.

ويرى الدكتور الجابري أنه ليس ثمة صراع في الإسلام بين الدين والعلم، كما كان الحال في أوروبا في القرون الوسطى، مستشهدا في ذلك بالعديد من الشواهد التي تدل على أن علماء الإسلام كانوا أكثر انفتاحا وتفهما لمنجزات العلم؛ بينما حرّم رجال الكنيسة القول بدوران الأرض، وظلوا متمسكين بقولهم بأن الأرض هي مركز الكون، وأن كل الكواكب والنجوم تدور حولها!

يذهب الجابري كذلك إلى أن الصراع في تاريخ الثقافة العربية كان في الأصل بين الفلسفة والسياسة، لا بين الدين والسياسة؛ فالدين “حمّال أوجه” بينما السياسة هي “فن الممكن” أما الصراع فيستلزم مواقف حدية تتقلص معها مساحات الممكن، وتسود فيها النظرة الأحادية، أما الفلسفة فقد مثلت في كثير من الأحيان عائقا أمام طموح الساسة ورجال الدين، بما ترتكز عليه دائما من أسس عقلية لا ترهبها سطوة النص ولا بطش سلطة الوقت.

ويرى الجابري أن ما أوصلنا لطريق مسدود في تعاملنا مع التراث ينحصر في وقوعنا بين طريقين لا ثالث لهما: الأول الدعوة إلى سحب الماضي وإلغائه وتبني الحداثة كما هي، والثاني الدعوة إلى فعل عكس ذلك.

ويقول الجابري في هذا الشأن موضحا ما ذهب إليه: “إن من غير الممكن صناعة بشر آخر بتراث آخر وبمفاهيم أخرى؛ فأوروبا عندما استفادت من التجربة الحضارية العربية بكل جوانبها، أعادت بناءها من داخل أوروبا نفسها، لقد استرجعوا ابن رشد ليس كما نعرفه نحن، بل كما صنعوه هم، ونفس الشيء يقال عن ابن سينا.. إن الهوّة التي تفصل الماضي والمستقبل الذي نريده لنعيش عالمنا؛ لا يمكن أن تردم إلا بجسور نبنيها من داخلنا بأدوات جديدة، وبالتفتح على كل ما يمكن أن يساعدنا”.

ويقول الجابري للذين يريدون طي صفحة الماضي نهائيا: إن “الصفحات المطوية” ستبقى في الكتاب، ويجب أن تبقى لتفتح من جديد، ولنصحح قراءتها من جديد.

في أحيان كثيرة كان الدكتور محمد عابد الجابري يتعجب من كثرة معارجه الفكرية وتداخلها، وكان استغرابه من أن ذلك لم يشكل عبئا نفسيا عليه، وهو من تجاورت في عقله الأيدلوجيا السياسية وحيدة الكتابة النظرية والبحث العلمي والانشغال بالقضايا التربوية، ومهام التدريس في الجامعة؛ لكنه فطن إلى أن ذلك التجاور لم يكن في إطار التضاد بل في صيغة تكاملية تعين على الفهم والاستيعاب، وتدفع نحو المزيد من استلهام الرؤى وتقصي الحقائق والبحث الأمين عن حلول ناجعة لمشكلات الواقع.. وما أحوجنا اليوم إلى هذه الرؤية التكاملية، ونحن في وسط هذا الواقع المضطرب بكل ما يناقض العقل ويستعصي على التصور من انهيار القيم والمُثل والثوابت التي تنتظم بها المجتمعات وتحافظ على كيانها، في مقابل تصاعد كبير للقيم المادية وتمثلات التحضر الزائف التي لا تقذف إلينا إلا بكل ما هو رديء وشاذ.. رحم الله العَالِم العربي الدكتور محمد عابد الجابري ونفعنا بما تركه لنا من منجز فكري فريد.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker