في حديقة الأفكار التي كانت مزهرة في القديم، تكسوها الخضرة وتزدحم بها أشجار النقاش، تضج بأغاريد طيور النُهى، وشدو بلابل الرؤى والأحلام – جلس الإلهاء منتشيا بما حققه من نجاحات وما أحرزه من تقدم ملموس تتوالى نتائجه المُذهلة.. كان الجدب حوله من كل جانب؛ وفوقه أطلت أغصان الخرس التي خاصمت يانع الأوراق منذ زمن، فلا شدو ولا أغاريد.. إنما نعيق بومٍ ونقيض عقبان.
من بعيد ظهر الوعي مبتئسا زَرِيَ الهيئة ينافح الفناء عن وجوده.. جلس على مقربة من الإلهاء وقد هدّه الصراع غير المتكافئ.. لاحت ابتسامة تشفٍ على وجه الإلهاء، قبل أن يلقي التحية على الوعي مُرحّبا به.
قال الوعي: أراك في أفضل حالاتك تعيش عصرا ذهبيا لم تكن تحلم به.. اكتمال حال الالتباس.. غيبة متعمدة للحقائق.. إغفال للشواهد.. إصرار لا تخطئه عين على التضليل.. أنت سيد اللحظة الممتدة في زمن الغفلة، بلا منازع.
اعتدل الإلهاء في جلسته، وقد انفتحت شهيته للكلام، رامقا الوعي بنظرة خبيثة يخالطها شفقة، قائلا: بالرغم من أن عملك الأساسي هو الفهم والإدراك والدراية بما يحيط وأحداثه؛ لصنع الاستجابات المناسبة؛ إلا أنك تنظر إليَّ الآن نظرةً لن أكون متجنيا إذا وصفتها بالقاصرة.. لست بدعا من الأمور – أيها الوعي- أنا نتاجُ عقودٍ من التجهيل، ومعاداة العلم وترويج الخُرافة ومجافاة المنطق، ورمي الفلسفة بالنقائص جملةً، وإحالة كل ما ينتجه الواقع من تعاسة ودمار إلى القدر المقدور، وأن ليس في الإمكان أبدع مما كان.. أنا منتج فائق الجودة للبوار العقلي الذي طال كل فئات المجتمع، ووصل إلى السواد الأعظم على اختلاف البيئات والطبقات والتعليم.. ولم ينج منه إلا أقل القليل.
رد الوعي وقد بدت على وجهه أمارات الغضب: كيف تتبجح على هذا النحو؟! لقد أسقطتَّ الجموع في هوة بائسة؛ تتزيا فيها الأباطيل ثوب الحقائق، وتتجلى فيها المغالطات في إهاب المنطق.. لتنقطع السبل إلى التبصر، وتتأرجح الرءوس فوق ضلالات الأهواء، وانحسار ماء اليقين.. وليس ألزم في راهن اللحظة من اعتصام المنطق، بإعادة بعث الرغبة في النفوس إلى التزامه والعمل به.
قطع حديثهما صوت خطوات تتحطم تحت وطأتها أوراق الشجر الجافة.. التفت الاثنان فرأياه وتعرفا عليه في التو، رُغم غيبته الضاربة في الزمن.. لم يُخطئاه وإن بدلته عوامل الإهمال والنبذ.. إنه المنطق الذي ذكره الوعي منذ لحظات؛ كأنما كان يستدعيه على وجه السرعة.
تهللت أسارير الوعي بصورة لافتة.. وقف مُرحبا فاتحا ذراعيه: أهلا وسهلا بسيدي ومُعلمي.. طالت الغيبة؛ حتى ظن البعض بك ظن السوء، فمن قائل استقال، وزاعم “انتحر” -لا سمح الله- وذاهب إلى ارتضائك بتقاعد مريح- ضاعت الحقيقة أيها المُبجل.
اعتدل المنطق في جلسته.. كان وجهه الحُزن، لكنه تحامل واضعا ابتسامة منهكة على مُحياه رمق بها الوعي، ثم قال: لا أخفيكما سرا أنني أشعر بالندم.. لقد أنفقت العمر في بحث القواعد العامة للفكر الصحيح، وتحديد الشروط التي بواسطتها يصح الانتقال من أحكام فُرضت صحتها إلى أحكام أخرى تلزم عنها؛ ليس لشيء إلا لأساعد الناس على تجنب الخطأ في التفكير، وتحذيرا لهم من الزلل في مهاوي الأوهام.. فقد كنت لوقت طويل أداة استدلال ناجعة ينطلقون بها من المعلوم إلى المجهول؛ داعما بكل ما أوتيت من قوة لأسس ومبادئ الفهم تمييزا بين الأداة السليمة والأداة غير السليمة وبين الأدلة الكافية وغير الكافية على النتائج؛ حتى وُصفتُ بأنني الآلةُ القانونية التي تعصم الذهنَ عن الخطأِ في الفكر.. ثم كان أن أبعدت عن عملي؛ لتحل المغالطة بديلا عني؛ ليضيف إليها البعض – ربما بحسن نية- لقب المنطقية؛ لأشعر بالإذلال أكثر.. ثم ها أنا ذا أجلس هنا لأدفع عن نفسي هذه الفِرَى البائسة!
قال الإلهاء معقبا: نعم أذكر تلك الأيام؛ حين استدعيت للبدء في أداء مهام عملي.. كنت أتوجس خيفة من وجودك.. تعلم لا أعمل بشكل مريح في حضورك! عندما رأيتك يومها من بعيد تساءلت في نفسي، ألم يخبروني أنهم أبعدوه.. وعندما تحققت زال خوفي، فقد كانت المغالطة تتزيا زيك، وتحاكي طريقتك وأسلوبك في الحديث والحركة.. لتكتمل بذلك دائرة الخداع التي لا أستطيع العمل دون اكتمالها.
تداخل الوعي في الحوار متذكرا تلك الأيام التي كانت معاناته فيها مضاعفة؛ جراء تفاقم حالة الالتباس بشكل غير مسبوق، نتيجةً لرواج سريع لكثير من الأقوال والأفكار والآراء في صورة برهانية زائفة، مستغلةً غيبة التحليل العقلي؛ مُجنِّدةً أعدادا كبيرة من الطامعين والحالمين.. ومسلوبي الفكر أمام المتاجرين بالكلام البليغ الأجوف، وأصحاب الخطاب المخاتل، وأرباب المنابر الذين يعتمدون الفُجرَ في الخصومة شرعةً ومنهاجًا؛ ويندفعون بشراسة بمجرد استشعارهم لوجود صيدٍ يكتسي ناقد الفكر.
دون أن يشعر أحد أطلت المغالطة في ثيابها المبهرجة، تعلو محياها علامات التحدي.. قالت: اجتماع كهذا، لم يكن من اللائق إغفال دعوتي إليه.. لكني سأتجاوز عن هذه الإساءة، وأدلي بشهادتي دون تدليس للمرة الأولى وربما الأخيرة.. وأضافت: لقد اعتمدت في عملي على عدد من الاستراتيجيات كان أولها نهي الناس عن النظر في الأفكار على سبيل التمحيص، والالتفات إلى أصحابها؛ نبشا في حياتهم الخاصة بقصد التشويه؛ لتسقط كل هيبة لهم في العيون؛ ثم استبدال الدوافع “الدنيئة” بالأفكار “النبيلة” والاستعانة بالتهمة الجاهزة التي لم تفقد صلاحيتها على مر العصور، وهي الخروج عن التقاليد ونبذ الموروث “المقدس”.. لينصرف الناس عن كل صاحب دعوة للإصلاح أو التغيير بعد أن يتخذوه عدوا.
وتكمل المغالطة بابتهاج واضح: لكن هذا لم يكن ليدرك النجاح الكامل دون استخدام البعض ممن حازوا مصداقية ما لدى الجماهير في السابق؛ وأصبحوا مصدر ثقة كبيرة.. فهذا الشيخ الثَّبت وذاك العالم الجليل أو المهني المتميز.. ومن لفّ لفهم، لا بد أن تُستخدم “عصمتهم” المُدّعاة؛ كسبيل ميسور للترويج لأكثر المقولات إفكًا وغيًا.
اعترض الوعي وقد أوشك على الاستسلام للغضب: لكن ذلك لن يحولَ دون تفاقم كثير من المشكلات؛ ربما بصورة تدفع المجتمع نحو الثورة تحت وطأة قصور الأداء في شتى المجالات، أو الاندفاع بوتيرة متسارعة إلى الانهيار!
ردت المغالطة بهدوء شديد: لم يتجاوز كلامك -أيها الوعي- حدود التمني، فلا يقتصر عملي على ما ذكرت فقط؛ فهناك أساليب أخرى جُعلت خصيصا لمواجهة ما أشرت إليه؛ مثل استراتيجية الهروب للأمام أو الخلف، فعند انعدام القدرة على التعامل مع مشكلات الواقع؛ يكون الاعتصام بالماضي، وبما كان وبما أنجز، وما واجهنا من تحديات، وما تجاوزنا من صعوبات، مع الإشارة إلى إرث الماضي وما آل إلينا منه من توابع الانكسارات والخيبات.. ثم يكون اللجوء إلى الإحالة والإرجاء والتسويف، أو تسويق المستقبل غير المؤسس على معطيات الواقع، في اللحظة الراهنة، تلك اللحظة التي تحاط بالمحظورات المضخمة بفعل الآلة الإعلامية: فليس أدعى للقبول بالواقع التعيس على رداءته، والصمت إزاءه.. من أن يكون الوطن مستهدفًا في وحدته، مهددًا في وجوده! لتصبح الحالة العاطفية هي الأنسب والانسياق لها هو ما ترغبه النفس وتسكن إليه، هذه الحالة التي تستثمر على نطاق واسع، وتتحقق بقوةٍ؛ مستفيدةً من هذا الإنهاك الفادح للقدرات العقلية لأغلبية المواطنين- بفعل الإعلام الموجه والمردود الضعيف جدًا للتعليم على مدى عقود، وأثر ذلك على الذاكرة الجمعية، التي أصبحت – في أحيان كثيرة- ملساء لا يعلق بها شيء، يتزامن هذا مع العمل الدائب على ترسيخ فكرة الجدوى المؤكدة للحلول الفردية؛ إذ أن العمل على حل هذه المشكلات بشكل موسع سيستغرق وقتًا طويلا حتى يحقق الاستجابة المطلوبة.
صاح المنطق: كان عليَّ تصور ذلك على نحو أوضح وأعمق؛ فمآلات غيابي خطيرة كل الخطر؛ فالناس بدون الاحتكام للمنطق يغرقون في بحر من الأوهام لا قرار له، ويكونون عرضة لقبول كل انهيارٍ وتردٍ مهما بلغت درجة فداحتهما، كما أنَّ فقدان القدرة على المعرفة؛ تُعْجِزُ عن المواجهة، ليصبحَ الناس صيدا سهلا لكل من يريد أن يستحوذ عليهم بالتضليل، والخداع واحتكار كل أداة من شأنها أن توسع الفجوة المعرفية بين الحاكم والمحكوم.
أضاف الوعي متحسرا: حقا سيدي.. فلقد استخدم العلم شر استخدام عندما استغلت البيولوجيا العصبية وعلم النفس التطبيقي في الوصول إلى معرفة متقدمة بالكائن البشري، نفسيًا وبدنيًا، ربما بأكثر مما يعرف هو ذاته، للسيطرة عليه واستلابه وتعميق اغترابه على نحو بالغ القسوة.
نظر الإلهاء إلى المغالطة نظرة احترام بالغ وتقدير كبير قائلا: لم أكن لأمارس عملي على هذا النحو الرائع دون مساعداتك العظيمة وخدماتك الجليلة. فردت المغالطة بابتسامة ملئوها الغرور.. ثم قامت وانصرفت دون اكتراث، وتبعها الإلهاء مودعا الوعي والمنطق، وقد جلسا في حال من الذهول يتبدلان نظرات الحسرة والتأسف.