بقلم: طارق يوسف، نقلا عن صفحته على على فيس بوك
في العام 1959، وبعد وفاة نجيب الريحاني بعشرة أعوام بالتمام والكمال (توفي في 8 يونيو 1949) أصدرت دار الهلال مذكرات نجيب الريحاني، التي كان كتبها الريحاني بنفسه ــ قبل وفاته ــ عن ذكرياته وسيرته الذاتية،
طلبت دار النشر (الهلال) من بديع خيري ان يكتب مقدمة لمذكرات، نجيب الريحاني، فكتب مستهلاً مقدمته للمذكرات: “ليس غريبًا أن تفكر دار الهلال ــ بمناسبة مرور عشر سنوات على وفاة نجيب الريحاني ــ في إصدار مذكراته التي خصها بها في حياته، وكتبها لها بقلمه… ونشر هذه المذكرات، وفي هذه المناسبة بالذات، تكريم للفن الأصيل في شخص كرس حياته لفنه.”
ثم يستطرد في ذكر مآثر الريحاني، وجوانب من سماته الشخصية، ومواقفه في شتى جوانب الحياة والفن على السواء، كما عايشها، وهو القريب شديد القرب منه..
فكتب يقول: إن صورة الريحاني الممثل الكوميدي، الذي أجبره جمهوره إجبارًا على المسير في الاتجاه الكوميدي، لم تكن الصورة التي ترضي طموح الريحاني،فقد كان يحب الدراما* وربما كان ذلك بسبب الظروف القاسية التي مرت به. وكان على قدر مرحه وفكاهته، يعاوده الحزن في فترات متقطعة لمأساة أصغر إخوته “جورج الريحاني” الذي اختفى قبل موت الريحاني بسنوات طويلة لغير ما سبب واضح.. وقد ظل سبب اختفائه حتى آخر عمر الريحاني ــ ولا يزال ــ لغزًا غامضًا تكتنفه الإشاعات، فمن قائل إنه أسلم وانضم إلى جماعات الصوفية، ومن قائل إنه ترهبن واعتكف في أحد الأديرة!
وعن التزام الريحاني الصارم بفنه، كتب يقول: “….. كان نجيب من فرط احترامه لفنه يعتكف في غرفته بالمسرح قبيل التمثيل بنصف ساعة على الأقل، ولا يسمح لإنسان ــ مهما كانت الظروف ــ أن يعكر عليه عزلته المقدسة. وفي عزلته هذه كان ينفرد بنفسه ليهيئها لمواجهة الجماهير، ويتقمص الشخصية التي سيمثلها، ويندمج في الدور الذي سيؤديه.. وكنت إذا رأيته وهو يغادر غرفته الخاصة في طريقه إلى خشبة المسرح لأداء دوره، خلته من فرط الانفعال شخصًا آخر، والواقع أنه يكون في تلك اللحظة شخصًا آخر فعلاً، يكون الشخصية التي سيؤدي دورها في مسرحيته..
وقد بلغ من حب الريحاني لفنه أنه لم يطق اعتزال المسرح بناء على مشورة الأطباء عام 1943، وكان الدكتور “روزا” قد نصحه بالابتعاد عن المسرح ستة أشهر حرصًا على صحته، فما كان من الريحاني إلا أن قال: “خير لي أن أقضي نحبي فوق المسرح، من أن أموت على فراشي”!
وكانت للريحاني مبادئ في التمثيل ينفرد بها، فقد كان رحمه الله يعتنق مبدأ في “الميزانسين”** تخالف المألوف.. كان يترك للممثل الحرية في تغيير ما يشاء منها كل ليلة، حسبما يقتضيه تكييف الممثل لميله واتجاهاته وفهمه للشخصية التي يلعبها، ولكنه مع ذلك كان يتمسك بحرفية ألفاظ المسرحية (النص المكتوب) دون تغيير أو تبديل!
وبالنسبة لموقف الريحاني من قضيا الوطن، والقضايا الاجتماعية، يقول بديع: الريحاني كان وطنيًا ثائرًا، جعل من المسرح منبرًا للوطنية.. كان الرجل الذي عالج السياسة بالفكاهة، وفتح عيون الجماهير إلى سوء حالها، وهاجم الإنجليز وأعوانهم في مسرحياته وتهكم عليهم، فلقي من عنت الاستعمار، واضطهاد السراي، الشيء الكثير. وفي هذا يقول نجيب الريحاني في مذكراته:
“حين رأيت من الجمهور المثقف، ومن عامة الشعب هذا الإقبال المنقطع النظير، رأيت أن أستغله استغلالاً صالحًا، وأن أوجهه التوجيه النافع، فرحت أنقب عن العيوب الشعبية، وأبحث عن العلل الاجتماعية التي تنتاب البلاد. ثم أُضمِّن ألحان الروايات ما يجب من علاج ناجع لمثل هذه الأدواء. كذلك راعيت في كثير من هذه الألحان أن تكون أداة لإيقاظ شعور الجمهور، وتعويده حب الوطن، وإعلاء شأنه، والمحافظة على كرامته، والتغني بمجده الخالد..”
ويستطرد بديع في وصف جانب آخر من جوانب شخصية الريحاني فيقول: لعل إنسانية الريحاني تظهر وتتجلى في أبرز صورها في جهوده التي بذلها في أواخر أيامه، لحث الحكومة على إقامة ملجأ للممثلين المتقاعدين، وحين شيد بيته الذي مات قبل أن يسكنه، كان يريد أن يخصصه بعد وفاته لهذا الغرض النبيل، ولولا أن المنية عاجلته، لكان قد أتم الإجراءات الرسمية، وتم له تحقيق أمنيته.
اما عن حياة الريحاني العاطفية، فيقول بديع: من بين النساء كانت صديقته “لوسي دي فرناي” هي التميمة السعيدة التي صحبت عشرته لها السعادة في الحب والمال. وفي هذا يقول نجيب (والكلام هنا على لسان بديع نقلاً عن الريحاني): “كانت لوسي صديقة لي، وكانت عونا في الشدة، ومساعدا يشد أزري، ويشدد عزمي، ولئن ذكرت في حياتي شيئا طيبًا، فأنا أذكر أيام زمالتها، وعهد صداقتها.”
ويفيض بديع في ذكر مآثر صديقه ورفيق مشواره، فيقول: ولعل نجيب هو الممثل الوحيد، بل رئيس الفرقة الوحيد، الذي كانت تسره إجادة أفراد فرقته. وكان بعد أن يفرغ من أداء دوره يقف بين الكواليس، ويظل يشجع أفراد فرقته بالإشارات والإيماءات، بل يقدم هدايا شخصية للمجيدين. وكانت الصحف تتهمه بالكسل، ولكنه لا يعبأ بالاتهام ويقول: “خير لي أن أواجه الجمهور بمسرحية واحدة كاملة، من أن أقدم له عشر مسرحيات ضعيفة، أو فيها مواضع ضعف”.. ولهذا السبب كان يهتم جدًا بالبروفات، وكثيرًا ما كان يقضي شهرًا كاملاً في إجراء التدريبات على فصل واحد من فصول مسرحياته.
وفيما يتعلق بالأوضاع المالية للريحاني، يذكر بديع في مقدمته:
ان الريحاني الفنان لم يكن يعبأ بالمادة في سبيل الإتقان، وكثيرًا ما أنفق، وأغرق في الإنفاق، وركبته الديون، في سبيل إخراج مسرحية يريد أن يبلغ بها حد الكمال. كان لا يبخل على فنه أبدًا، بل لقد كان يتبرم من امتلاء المسرح في الليالي المزدحمة، فقد كان يرى أن هذا الازدحام يحرمه من الجو الهادئ الذي يتيح له الإجادة.. كان يفرح للجمهور المحدود، وكانت مواهبه بالفعل تبرز وتتجلى وسط المتفرج الهادئ، مع ما في ذلك من الفوارق المادية بالنسبة إليه كصاحب فرقة. وكان يشترط ــ لدى تعاقده مع المتعهدين والجمعيات الخيرية ــ ألا تباع تذاكر أعلى التياترو في الأوبرا بمصر، أو الهمبرا*** بالإسكندرية، على أن تقتطع قيمة ما تدره هذه الأماكن من الأجر الذي يتقاضاه شخصيا.
ويختتم بديع مقدمته لمذكرات الريحاني بالكلمات التالية: “هذه المقدمة إذا ليست إلا مجرد خواطر … وذكريات … وصور، جمعتها أشتاتًا من ذاكرتي، صورة من هنا، وصورة من هناك”….. “وإن لهذا الكتاب لمعنى جليلاً .. معناه أن الريحاني الفنان لم يمت، ولكنه خالد في قلوب محبيه … معناه أن الفنان الصادق لا يموت.”
* في الزمن الفائت، كانوا يستخدمون كلمة “دراما” ــ ومازال البعض إلى يومنا هذا ــ للتعبير عن ما يصطلح عليه “تراجيدي”، رغم إن الدراما تضم الكوميدي والتراجيدي
** الميزانسين: ترتيب حركة وأوضاع الممثلين على خشبة المسرح
*** الهمبرا: دار عرض سينمائي بمحطة الرمل بالإسكندرية، وهي دار متسعة، كانت تقام بها بعض العروض المسرحية، وبعض حفلات أم كلثوم