رؤى

دلالة السياق: نقد مقولة “التدرج”.. في تحريم “الخمر”

ضمن اِلأمثلة المتعددة التي ذكرها من يقولون بالنسخ، بمعنى المحو والإلغاء والحذف، من فقهاء القرون الوسطى، في التاريخ الإسلامي، والتي ما تزال مؤثرة في حياتنا الراهنة حتى الآن.. تأتي مسألة “التدرج في التشريع”، وتحديدا مسألة التدرج في تحريم الخمر. وينبغي التأكيد -هنا- أن مفهوم النسخ في التنزيل الحكيم لا يعني، ولا يمكن أن يعني إبطالًا لبعض الآيات أو إسقاطا لها؛ ولكنه ـ كما قلنا من قبل ونُعيد ونُكررـ مفهوم يُشير إلى المماثلة أو المطابقة، كما نستعملها في وقتنا المعاصر.

لذا، لابد لنا من الاحتكام إلى كتاب الله سبحانه وتعالى.. لنرى، هل من الصحيح أن تحريم الخمر كان تدريجيًا، يلغي اللاحق منه السابق(؟).. وهل من الصحيح أنه دال على مسألة “النسخ”، بمعنى المحو والإلغاء؛ أم أنه “حجة” على القائلين بالنسخ، إياه، أي بالمعنى الذي حاولوا تثبيته في الأذهان، خطأً وزورًا، وبهتانًا عظيمًا(؟).

مقولة “التدرج”

ما معنى القول بـ”التدرج” في التشريع(؟).. وهل هناك حقيقة تدرّج في تحريم الخمر.. أم أنه إجمال في التحريم، ثم تفصيل ذلك الإجمال(؟).

إن القول بـ”التدرُّج” في تشريع الخمر، لا يعني سوى أن الخمر كان “حلالًا” في البداية، ثم قرر المولى عز وجل تحريمه، عبر أكثر من تشريعٍ متتالٍ.. وهو قول لا يمكن قوله إلا عن لسان “جاهل” بالتنزيل الحكيم.

لا، ليس هناك مثل هذا التدرُّج الذي يدعونه؛ بل، إجمال ثم تفصيل.

أيًا ما يكن الأمر، لنا أن نعود إلى الآيات التي ذكرها أولئك الذين يقولون بالتدرُّج..

يقول سبحانه وتعالى: “يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ” [البقرة: 219]؛ وكما يبدو من سياق الآية، فإن “الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ” رغم أن فيهما “مَنَافِعُ لِلنَّاسِ”، إلا أن “فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ” في الوقت نفسه؛ ليس هذا وحسب، ولكن “إِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا”. ومن ثم، فالإثم هنا، فضلًا عن كونه إثم كبير، فهو يَجُبْ النفع، لأنه أكبر منه.

وبالتالي، فإن مقولة أن الله سبحانه وتعالى قد “حذر من الخمر ولم يحرِّمها”، في هذه الآية، هو خطأ كبير؛ يعود إلى أسلوب الاجتزاء المتبع لدى كثيرين.. أما في حال تدبُّرنا آيات التنزيل الحكيم عبر السياق الدلالي للآيات -في تكاملها- لنا أن نلاحظ قوله سبحانه: “قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ” [الأعراف: 33]؛ وهو ما يعني أن “الْإِثْمَ” يأتي ضمن المحرمات التي ذكرتها الآية، وأن “الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ” يأتيان ضمن المحرمات أيضًا، بحكم أن “فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ”، وبحكم أن “إِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا”. وهو ما يؤكد -من جديد- على خطأ مقولة “التحذير” إياها.. هذا من جهة. من جهة أخرى، يقولون أن الخطوة الثانية في تحريم الخمر هي قوله تعالى: “يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون…” [النساء: 43] وفي ما يبدو، فهم قد اعتمدوا على أن لفظ “سُكَارَى” يُشير إلى “حال” شاربي الخمر.. بل، يكفي أن نُراجع تفسير هذه الآية عند الفخر الرازي، في كتابه “التفسير الكبير ومفاتيح الغيب”، لنعرف الخطأ الكبير الذي وقع فيه الرازي وغيره، خاصة عندما يقول “إن جميع المفسرين قد اتفقوا على أن هذه الآية قد نزلت في شرب الخمر”.. وبصرف النظر عن مدى صحة ما يُطلق عليه “أسباب النزول”، الذي سوف نخصص له أحاديث قادمة؛ وبصرف النظر أيضا عن أولئك المفسرون الذين أشار إليهم الرازي بأن “جميعهم قد اتفقوا” نقول: لا يعنينا ما تفقوا عليه؛ بقدر ما يعنينا أن الآية لم تُشر من قريب أو من بعيد إلى “الخمر”، ولكن ورد فيها لفظ “سُكَارَى” الذي لا يُفيد شاربي الخمر حصرًا.

دلالة “سُكر”

الدليل على ما نذهب إليه، هو أن مشتقات لفظ “سُكر” التي وردت في التنزيل الحكيم، لم تأت عن الخمر في أيٍ من المواضع التي وردت فيها، ولا شأن لها، من حيث المعنى والمفهوم، والدلالة أيضًا، بالخمر. لقد ورد لفظ “سُكَارَى” في آيات التنزيل الحكيم مرات ثلاث، إحداها في الآية المشار إليها في سورة النساء [43] ثم مرتان في سورة الحج [2]. أما لفظ “سُكر”، فقد وردت مشتقاته أربع مرات، إضافة إلى هذه المرات الثلاث: في سورة الحجر [15، 72]، وفي سورة النحل [67]، وفي سورة ق [19].

وبخصوص لفظ “سُكَارَى”، يقول تعالى: ” يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ٭ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ” [الحج: 1-2]. وهنا، عند الحديث عن “زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ”، لا يمكن أن يتخيل أحدهم أن “النَّاسَ سُكَارَى” نتيجة شرب الخمر.. إذ -كما يبدو- إن دلالة لفظ “سُكر” يؤشر إلى “سد الطريق” عن إدراك الأشياء على حقيقتها، وهو ما يتضح من خلال سياق الآيات؛ فلأن “عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ”، ولأن “زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ”، لذلك ترى الناس “سُكَارَى”، هذا رغم أنهم “مَا هُمْ بِسُكَارَى”.

أما القول بأن “السُكر” هو غياب للعقل، فليس صحيحًا على إطلاقه، لأن الغياب هو نتيجة “سد الطريق” عن الإدراك الحقيقي للأشياء. ولعل ذلك ما يتبدى بوضوح في قوله سبحانه: “وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنْ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ٭ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ” [الحجر: 14-15]؛ إذ إن “سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا” تؤشر إلى أنها غشيت، أي إنها لا تدرك الأشياء على حقيقتها، بدليل ختام الآية “بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ”.

وبخصوص لفظ “سُكَارَى”، كذلك، يقول تعالى: “يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون…” [النساء: 43].. وهنا لنا أن نلاحظ السبب في النهي الذي ورد في الآية، عن عدم الاقتراب من “الصَّلَاةَ” في حالة “السُكر”، وهو “حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون”. والأهم لنا أن نلاحظ بداية الآية، إذ كيف تبدأ الآية بالنداء “يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا”، ثم يتفتق ذهن بعضهم عن أن لفظ “سُكَارَى” يؤشر إلى شاربي الخمر، وأن الآية تنهي عن الصلاة في حالة السُكر؛ بما يعني ـ حسب ذات المنطق المُعْوَج ـ أن حالة السُكر “نتيجة شرب الخمر”، مَنْهِيٌ عنها عندما تقترن بالصلاة فقط.. وهنا، لا يكون لدينا أي تعليق سوى مدى “الجهل” في مثل هذه الأقوال وتلك الآراء.

وإذا كان البعض، مثل الرازي والقرطبي وابن كثير.. وغيرهم، يرى أن قوله سبحانه: “وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ” [ق: 19]، فيه تقييد للـ”سَكْرَةُ” بـ”الْمَوْتِ”.. إذًا، فما الرأي في قوله تعالى، عن قوم لوط عليه السلام: “لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ” [الحجر: 72](؟).

إن هذه الآيات البينات، تؤكد أن دلالة لفظ “سُكر”، عبر مشتقاته التي وردت في الذكر الحكيم، إنما تؤشر إلى “سد الطريق عن الإدراك الحقيقي للأشياء والظواهر”.

اجتناب “الرجس”

هنا، نصل إلى نقطة الارتكاز لدى فقهاء القرون الوسطى.. نعني قوله سبحانه وتعالى: “يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” [المائدة: 90]. فالبعض ممن قالوا بـ”إلغاء الأحكام” بناء على المفهوم الخاطئ ـ لديهم ـ لـ”النسخ”، يقولون إن هذه الآية تلغي الأحكام الواردة في آيتي سورة البقرة [219]، وسورة النساء [43].. وذلك لأجل القول بـ”التدرُّج” في تحريم الخمر.. وكلاهما قول غير صحيح.

غير صحيح، لأنه ليس هناك أي نوع من “إلغاء الأحكام” في القرآن الكريم وآياته البينات؛ ولا يمكن لآية أن تلغي الحكم الوارد في آية أخرى، فآيات التنزيل الحكيم تتكامل مع بعضها في السياق القرآني العام، وليس بينها أي اختلاف؛ يقول سبحانه وتعالى: “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا” [النساء: 82].

وهو غير صحيح لأن “الاجتناب” في الآية، إنما يؤشر إلى الـ”رِجْسٌ” الذي هو “مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ”؛ والدليل أن الأمر الإلهي بـ”الاجتناب” جاء في صورة المفرد، ولم يأت بصورة الجمع “فاجتنبوهم”، أو “فاجتنبوهن”، من حيث إن الوارد في الآية الكريمة هو مجموع “الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ”. ومن ثم، فإن “فَاجْتَنِبُوهُ” تُرَد إلى “رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ”، وأن هذا الـ”رِجْسٌ” يشمل “الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ” جميعًا.

وكما جاء الأمر الإلهي، في هذه الآية، بـ”اجتناب الرجس” الذي هو “مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ”؛ فقد جاء، أيضًا، الأمر الإلهي بـ”اجتناب الرجس” في موضع آخر من آيات التنزيل الحكيم، ولكن هذه المرة “مِنْ الْأَوْثَانِ”؛ يقول سبحانه: “… فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ” [الحج: 30].

عود على بدء

في هذا السياق، هنا، ومن خلال المقالات السابقة عن مفهوم النسخ، التي نشرت على موقع “أصوات أونلاين”، يمكن الاطمئنان إلى القول بأن القاعدة الأساس التي ينبني عليها مفهوم النسخ، في القرآن الكريم، تؤكد أن “النسخ” مفهوم يؤشر إلى “تدوين شيء بشكل يكون صورة طبق الأصل من أصل الشيء”.. أي: “نقل صورة شيء إلى مكان، مختلف عن مكان الشيء الأصلي”؛ وهو ما يعني أن مصطلح “النسخ” في التنزيل الحكيم، يُشير إلى المماثلة أو المطابقة، كما نستعملها في وقتنا المعاصر.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock