في الحلقة الماضية أشير على عُجَالة إلى أن العروي قد ذهب إلى أن مشروع الشيخ محمد عبده يُعتبر على نحوٍ ما امتدادا لابن خلدون.. لكنه يُلمح إلى أن قصورا ما شاب استيعاب الشيخ لكل “الاصطلاحات والاجتهادات الخلدونية” وربما كان هناك عجزٌ في الفهم والإدراك؛ حاول العروي أن يقيم دلائله!
رغم ذلك سيبدو لنا بشكل واضح أن العروي يتعامل بصورة أخرى مع المنجز الخلدوني الذي اقترب كثيرا بـ “عقله التجريبي” مما سعى العروي إلى توضحيه وبيانه وأطلق عليه مسمى “عقلانية”.
وقف العروي على تماثلات تصل إلى حد التطابق بين رؤى الرجلين؛ إلا أنه لا يعتبر ذلك باعثا له على تفحص الأمر، دون التساؤل عن ما دعا محمد عبده إلى الانحياز نحو المفارقة المشار إليها باستفاضة في الحلقة الماضية، وما ترتب عليها من نتائج.
وبحسب الدكتور حسين مهدي؛ فإن ابن خلدون تميز عن سابقية بواقعيته التي اكتسبها من منهجه الأرسطي بينما توقف غيره عند مثالية أفلاطون.. لكن مهدي لا يسبغ عليه صفة العصرية كمفكر؛ وهو ما يرفضه العروي باعتبار أن ذلك يعيد ابن خلدون “قصرا وتحكما إلى حظيرة الفكر التقليدي”.
يسخر العروي -وحق له أن يسخر- من الباحثين والمثقفين الذين جعلوا من بعض كتابات الأوربيين مرجعا في نقدهم لابن خلدون؛ واعتماد ترجمات المقدمة بديلا للأصل العربي.. ووصل الشطط بالبعض اعتمادا على تلك الكتابات والترجمات المتفاوتة القيمة – أن يرمي ابن خلدون بالانتحال والنقل عن الغزالي وعن قدامة بن جعفر.. ما يكشف عن إعراض هؤلاء عن قراءة المقدمة قراءة مدققة؛ إذ أورد صاحبها تعليقاته على المؤلفات التي تتشابه ومؤلفه من حيث الموضوع.. أما ما أورده في مقدمته من “نقول” فكان يتبعه ببيان وجه القصور في تناول المسألة، أو ما شاب الحكم عليها من عوار.. ولا يجب أن يقف الباحث في المقدمة عند الاطلاع على النص العربي دون أن يتعداه إلى غيره؛ وذلك لانعدام وجود نص محقق تحقيقا تاما بحسب ما أكده العروي.
وينبه العروي غلى أن النسخ الموجودة من المقدمة متفاوتة الطول بسبب كثرة الحواشي والتوضيحات والتعليقات التي ظل ابن خلدون يضيفها للمقدمة طوال حياته، وتكمن أهمية هذه “المزايدات” في موقعها داخل النص، ويشير العروي بإصبع الاتهام إلى الناشر الذي تصرّف في غير مواضعها ما أخل كثيرا بمقصود ابن خلدون من تلك التدوينات.. ويقترح العروي إعادة تكوين المتن الخلدوني من فصول المقدمة فقط، لأن البرهان على علاقة مستوى العقل بتطور العمران لا يوجد إلا في تلك الفصول.
وعن العقل التجريبي الذي يعتبر مرحلة تالية للعقل التمييزي، وسابقة للعقل النظري.. يرى العروي أن استفاضة ابن خلدون في الحديث حوله يعتبر دليل أصالة، فقلد تجاوز بما قال إسهام سابقيه بالتمييز بين ما هو نظري كالماورائيات، وما هو عملي كالأخلاق؛ بإيضاحه أن العقل الذي يخدم النفس خدمة فعالة هو الذي يستطيع أن يتخطى ستور الكتابة، ثم ستور اللعة ليمسك مباشرة بالعينيات، أي الحقائق العقلية، بحثا عن الوسائط ويعني بها طرق الطبيعة وهي تمر من حالة إلى أخرى من طور إلى آخر. ويخلص العروي من هذه النقطة إلى أن الحيز الخلدوني هو من العمران إلى عالم الحوادث فقط، وأن ابن خلدون ترك ما سوى ذلك لغيره، وهذا ما يعني أن ابن خلدون لم يكتب تاريخا لأن التاريخ يبدأ من عالم الحوادث إلى العمران على عكس اتجاه البحث والتمحيص الذي سار عليه ابن خلدون في مقدمته.
ربط ابن خلدون العمران بالصنائع، التي يربطها بالعقل التجريبي الذي يؤثر في السلوك فينتج الأخلاق العقلية (المدنية) وبما أن نظام العمران البدوي قد تساكنت فيه السياسة الشرعية والعقلية، رأينا مقولات أفلاطون وأرسطو تدعم لدى فلاسفة المسلمين بآي الذكر وأحاديث الرسول!
ويرى العروي أن ابن خلدون تميز في هذه القضية بالواقعية التامة، فرفض ثورة الفقهاء على ما أسموه بالبدع، باعتبار ذلك من طبائع الأمور مع تطور الصنائع، بعد ما لحق العلوم الشرعية من شروح وتدوينات بعدت بها عن حالها الأول من الوضوح والإيجاز.
يخلص العروي إلى أصالة الفكر الخلدوني وبراءته من شبهة التقليد، ويدافع عن ازدواجيته في بعض الأحكام العينية، ويراها لا تدل على تناثر الأفكار الخلدونية بقدر ما تشير إلى ثنائية المجتمع الإسلامي، وهي بذلك – أي ازدواجية الأحكام- مرآة لم اتصف به ابن خلدون من واقعية و”وضعانية”.
يتضح مما سبق أن قطيعة العروي مع التراث ليست حاسمة أو نهائية؛ فمعرفته بالتراث على نحو من العمق والتفرد لا يمكن إنكارهما، إنه يدعو إلى مقاطعة التمسك الأعمى والاجترار البليد.. وهو يطرح الماركسية التاريخانية بديلا ولكنها ماركسية تجريدية -حسب أمين العالم- تعتمد الجدل الهجيلي، لتتحول إلى ماركسية معلّقة في فراغ من التجريدات والتعميمات.
من الإجحاف أن نرفض فكر العروي جملةً بدعوى أنه لا مناص من المزاوجة بين الأصالة والمعاصرة كطرحٍ معتمد للتعامل مع الإشكاليات الراهنة في واقعنا العربي، ومن غير المقبول أيضا أن نقبل طرحه بما تبدى فيه من مواطن “التطرف” الفكري، والانحياز.. علينا إذن أن نداوم على دراسة مشروعه الفكري في أطر من البحث الهادف؛ فلا شك أنه قد حرّك كثيرا من الرواكد الفكرية في واقعنا العربي.. وما أكثرها!