ثقافة

تسان شيوي مبدعة صينية تلمس حنايا الروح

تسان شيوي هي كاتبة وأديبة صينية مبدعة، سطرت اسمها بأحرف من نور في تاريخ الأدب الصيني المعاصر. واستطاعت بتفردها الأدبي ومعرفتها المتنوعة أن تحتل مكانة متميزة ومرموقة في المشهد الأدبي الصيني.

تقول تسان شيوي عن نفسها: “إنني في كل مناسبة للكتابة في حياتي، أحاول أن ألمس حنايا الروح، وأغوص في أعماق النفس البشرية لسبر أغوارها، والكشف عن مكنونها. ودائما ما كنت أشعر أن هذه أهم مساءلة تواجه أبناء هذا العصر، من المهتمين بالشأن الإبداعي الأدبي”.

تلك كلمات الكاتبة الصينية، والتي تعد من أكبر الكُتّاب الطليعيين تأثيرا، في ساحة الأدب القصصي والروائي الصيني منذ ثمانينات القرن الماضي، وهي الحقبة التي شهدت انفتاح الصين على التيارات الثقافية الغربية الحديثة.

استطاعت شيوي بتفردها الأدبي، وخصوبة استقصاءاتها الروحية ذات الأبعاد المعرفية المتنوعة، أن تحتل مكانة مرموقة في تيار الأدب الطليعي الصيني، لتحظى أعمالها الأدبية بقاعدة قراءة واسعة لدى الشباب في بلادها. كما ترجمت الكثير من أعمالها إلى اللغات الأجنبية، إضافة إلى اهتمام دوائر أكاديمية عريقة بدراسة مؤلفاتها.

على سبيل المثال صدر عام 2018، باللغة العربية مجموعة قصصية لتسان شيوي بعنوان “غرفة فوق التل” ترجمة وتقديم د. محسن فرجاني أستاذ اللغة الصينية في كلية الألسن بجامعة عين شمس. وفي هذا السياق نشير إلى أن المترجم صاحب إسهام كبير في نقل الأعمال التراثية الكبرى في التاريخ الثقافي الصيني. لذا جاءت ترجمة هذا الكتاب، ترجمة إبداعية مستندة إلى قاعدة معرفية واسعة، وقدرة على سبر أغوار النصوص جماليا، وربطها بسياقها الثقافي.

لاحظ المترجم محسن فرجاني المتخصص في الأدب الصيني، وإبداعات تسان القصصية أن تسان تأثرت بمنابع فكرية وثقافية متنوعة منها ما هو غربي، ومنها ما يعود إلى الواقعية السحرية كما نعرفها في أدب أمريكا اللاتينية. لكن القاعدة السردية في نصوصها تقوم في الأساس على استلهام عناصر البيئة المحلية، خصوصا تلك العناصر الثقافية المتوطنة في إقليم هونان مسقط رأسها، حيث تنتشر موروثات ثقافية عتيدة، وعادات وتقاليد متجذرة، وهو ما يلمسه القارئ في اختيار شخصياتها القصصية، والثيمات السردية التي تعالجها، وتبدو منحوتة من واقع الحياة المعاشة، ومن أحلام الناس ونوازعهم الغرائبية. والمهم هنا أن طرق الصياغة الفنية تحمل خصائص الأدب الطليعي من حيث التجديد في أسلوب القص، والشكل الفني والتوظيف المتنوع والواسع لتقنيات الكتابة الحداثية.

هذه الخصائص تتضمن ثورة على تقاليد الكتابة المألوفة، كما تتسم بالمساءلة الدائمة للماضي والحاضر دائما، والبحث عن التجريب واستهداف الكشف عن المجهول الكامن في أعماق النفس البشرية، واستبطان خبايا الروح؛ لترى الكاتبة ونرى معها عالما وأناسا عاديين يمرون بحالات شعورية ووجودية، لم تسبق ملاحظتها وسبر أغوارها من قبل. ومن هنا تصف تسان كتابتها بقولها: “أنا لا احكي قصة بشكل أفقي، بل أقصُّها بشكل عمودي، شكل يحتاج إلى ثورة على مفاهيم الأسلوب السائدة حتى يمكن النفاذ إلى أعماق النفس البشرية. ويجب أن نشير إلى حقيقة مهمة هنا، وهي أن البنية السردية في نصوص شيوي تكشف عن منظور متعدد الرؤى، يتسم بالكثافة الدلالية، لكنه أيضا مسربل بظلال الغموض؛ فهي تكتب من أجل أن تكتشف عالما حلميا يقوم على التشظي وتتابع شذرات سردية غير مترابطة ظاهريا، لكنها منسجمة مع روابط داخلية قد تخفى على القارئ المتعجل.

أما الصوت السردي فلا يفرض سلطة للمؤلف المالك للحقيقة المطلقة؛ وإنما هو صوت متعدد مجدول مع مجموع أصوات تتوالى بشكل عمودي، كما أشارت الكاتبة نفسها لتصل امتداداتها إلى أعماق وقاع الروح حيث النبع الأول، والجوهر الكلي الإنساني الذي يتوزع على القراء، فيصل كل منها إلى جوهره الخاص.

من هنا نرى أن المحور الأساسي لإبداعات تسان يدور حول الوصول إلى أعماق النفس البشرية وحنايا الروح من اجل الكشف عن مكنونها.

نلاحظ في معظم قصص تسان تأثرها الواضح بكتابات فرويد في علم النفس، خاصة ما يتصل بأعماق وصراعات اللاوعي واللاشعور، ومحاولة الكشف عن تلك الصراعات، وما خفي من المشاعر. كما تستوحي تسان شيوي الرموز والدلالات الإيحائية في التعبير عن مشاعر أبطال قصصها، وهذا مثلما كان يفعل فرويد في كتاباته التي تستخدم الرموز والدلالة اللاشعورية في الكشف عن مكنون النفس البشرية.

وإذا أردنا إن نوضح ذلك الأسلوب، نرى في قصتها “وريقات حمراء” التي تدور وقائعها الغريبة في مشفي، لا ينتظر المريض فيه بأمراض مستعصية سوى الموت، والشخصية المحورية تدعى المعلم “كولاو” الذي لا تفارق مخيلته صورة وريقات مزهرة حمراء حلم بها يوما، و أصبحت حقيقة واقعية يتأملها، فيما يظل يبحث عن تلميذه المحتضر الذي يجاوره على سرير المرض.

هنا تتبدى الطبيعة في عنفوان الحياة، وقد سرت الحمرة في عروق الشباب، كما تسرى الدماء في عروق البشر، يقابلها الوجه الآخر للحقيقة المتمثل في اقتراب الموت، وما يحمله من هذيانات تخلط بين الوعي واللاوعي، وبين الواقعية والخيال، في حين يتمثل التلميذ الذات الأخرى لوجود المعلم نفسه؛ ويتلمس القارئ من خلالهما معضلة الحياة والموت.

وتواصل تسان نهجها في الكتابة على امتداد قصص المجموعة، فتقدم متلمسة منهج فرويد شخصيات غريبة الأطوار؛ لكنها مرسومة بشكل كامل الواقعية والاقتناع وفق منطقها الخاص، حيث تقترن الغرابة بالواقع المألوف وتنبع منه، وأن تكون محمّلة بالرموز والإيحاءات المبطنة المفاجئة بين شذرات للسرد، وغياب للحبكة الواضحة محكومة بعقلانية الرؤية الفنية الرافضة لموضوعات الكتابة الأدبية السائدة.

ومن هنا تعبر تسان شيوي عن رؤيتها بقولها: “الأدب الحديث جزء من محبة الحياة والاجتهاد والابتكار والإبداع إلى أقصى حد، وهذه كلها عناصر مهمة في بناء مملكة الروح.

ومن هنا نستنتج أن الكاتبة تأثرت بكتابات فرويد وخصوصا كتابه “تفسير الأحلام” لأنه يدور حول اللاوعي ودوره في تشكيل الحلم ودلاله الرموز فيه.

 ولعل هذا يتضح في المعالجة الفنية لثيمة رجل الأحلام في قصة شيوي، التي تنحو منحىً يجعل الرجل أكبر من الحياة في سياق الزمان والمكان اللذين يؤطّران أحداث القصة. فقد انقطع عن رجل الأحلام مجيء العابرين، حين أصبح له حلمه الخاص الذي لم يستطيع تفسير ألغازه، وإن ترآى له في لمحة مفارقة مغزى ما ظل هاربا. غير أن هذا المغزى تبدّل بالتدرج مع الوقت، حتى أصبح من بين المعاني الأكثر انفلاتا من دائرة اليقين، والسؤال الأساسي في القصة هل استطاع رجل الأحلام أن يفك طلاسم النفس الإنسانية، ويلمس حنايا الروح؟

هذا السؤال يظل مفتوحا لقراءات وتأويلات متعددة تحتملها وتوحي بها نصوص تسان شيوي ونهاياتها المفتوحة.

لقد استطاعت كتابات تسان شيوي الإبداعية أن تغوص في أعماق النفس البشرية، وتستخرج مكنوناتها ومشاعرها الخفية؛ لتعبّر بصدق عما يختلج في تلك النفوس البشرية من مشاعر ووجدانيات.. وبذلك احتلت الكاتبة الصينية مكانة مرموقة في تاريخ الأدب الصيني المعاصر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock